المنشور

البترول رأس مال العرب (11)

إن التناقضَ في (البضاعة) البترولية بين المضمون الإقطاعي والشكل الرأسمالي هو تناقضٌ محوري، فقد رأينا كيفية تكوين الأساس السياسي لإنتاج هذه البضاعة، ولكن هذا التناقض يمتدُ في كل الظاهرات التي تتالى مع عمليات الإنتاج. فهناك الحكمُ التقليدي الذي يسيطرُ على مكان إنتاج البضاعة، لكنه لا يسيطرُ على أمكنةِ نقلِها وتداولها، فالبقعةُ التي توجدُ فيها هذه البضاعة تكون عادةً صحراوية، مقفرةً من البشر، وبالتالي فإن مصفاةَ التكرير أو معملَ التكرير بحاجةٍ إلى قوى عاملة، تـُستقدمُ من أمكنةٍ أخرى قد تكون مدناً أو قرى. وبهذا فإن جلبَ العمالة من تلك الأمكنة المحددة يخضعُ كما يُفترضُ من الحكومةِ التي أعطتْ الامتيازَ، ولكن الحالَ لا يكونُ كذلك، فقد غدت الشركةُ أشبه بحكومة، فهي التي تقررُ أحوالَ المكان النفطي، سواء بتحويلِ الصحراء إلى مدينة ، أو بتغيير البلدة إلى مدينة، وتحديد أنواع السكان وطوائفهم وحرفهم وأعمارهم التي سوف تكونُ مشمولةً بالرعاية السامية للشركة.
إن الحكومةَ العربيةَ التقليدية التي أعطتْ الامتيازَ تتنحى من المسرح الاقتصادي تاركةً الشركة البريطانية أو الأمريكية أو الفرنسية أو الهولندية تسيطرُ عليه، فتتحول الشركةُ إلى حكومة إقطاعية مصغرة. فهي التي تقومُ بتلك القرارات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة النفطية وما جاورها، من تحديد المدن والقرى المسموح لها بالبقاء أو بالزوال، وأي فئات ستكونُ مشمولةً بالرعاية من لدن سموها، وأي الفئات ستكون محرومةً من ذلك العطف. وهذه القراراتُ السياسيةُ والاجتماعية ستكون قادمةً من مركز الشركة، بعد التدوال بشأنِها مع الفرع، فيغدو مركزُ القرار قادماً من تلك المدن البعيدة القابعة في الغرب، التي لن تتأثر بجو الديمقراطية الواسع في مكانها، أو بمستوى الحضارة الرفيع، بل ستعملُ على أن تكون جزءًا دائماً قوياً في تلك البقعة البدوية، وصحيح أنها سوف تستخدمُ مختلفَ ابتكارات العلوم والتقدم التقنية فيه، إلا أنها فيما يتعلق بالقراراتِ الاقتصادية الاجتماعية الخاصة بمادةِ إنتاجها، بالبضاعة النفطية، فإنها ستكون مماثلةً للحكومة الإقطاعية الشرقية، زميلتها في الشراكة وفي عملية الإنتاج. فما دامت الحكومة سنية فسوف تعملُ على إرضاء هذه الطائفة السائدة في تلك الدولة، وإذا كانت شيعية فسوف ترضي الحكومةَ الشيعيةَ وغير هذا من المذاهب التي ستكون في بلد الإنتاج، أما علمانيتُها وحداثتُها فقد تركتها فيما وراء البحار، وستغدو سياستها الاقتصادية جزءًا من المكونات الاجتماعية السائدة يسوسها ويقودها الملكُ السيدُ وهو الربح. وإذا كانت ثمة صراعاتٌ وخلافات مذهبية وعرقية فسوف تـُوظفُ هذه الخلافات لبقائها، ولعدم انجرار العمال إلى الاضرابات، ولكن الأهم أن الشركة سوف تكون لها سياسة إقطاعية – رأسمالية، تعكسُ المضمونَ الإقطاعي المسيطر والشكلَ الرأسمالي التحديثي غير العميق. إنها ستعملُ على ترسيخ السلطة الوراثية القبلية والدينية، لأن مضمون الصحراء الفارغ من مدنٍ متطورة ومن أحزابٍ وبرلمانات عريقة كله غير موجود، ولو كان موجوداً لما كانت الشركة وامتيازاتها بهذا الجبروت، ولكنها من جهة أخرى ستعمل على عدم ظهور هذا المضمون الشرقي الديمقراطي المتطور الذي يزيلُها! ولهذا ستعملُ كلُ شركةٍ نفطية على أن تكون سيدة منطقتها وبلدها، فتقومُ بارتداءِ عباءةِ المكان الإقطاعية، مع إضفاءِ صبغةٍ تحديثية شكلية، تخفي بها ذلك المضمون المتواري. بل ان الشكلَ التحديثي هو ذاتهُ جزءٌ من العملية الاقتصادية الاستغلالية العميقة، فسوف تدعمُ الأجورَ والرواتبَ في مرحلةٍ لاحقة من مرحلة التأسيس المجدبة للسكان المحليين، خاصة بعد انهمار الأرباح الوفيرة وارتفاع أصواتهم احتجاجاً وإضراباً، لكن ستجعل تلك الدخول تعودُ إليها ثانيةً، أو إلى شركاتها الأخرى أو إلى المجموعات الرأسمالية الغربية الوطنية التي تنبثقُ منها، عبر جعل العمال والموظفين يشترون سلعها الانجليزية أو الأمريكية أو الفرنسية حسب جنسية تلك الشركة، اطراداً مع كثرة أرباح الدول النفطية، فتتالى الموديلاتُ المختلفة والسلعُ المتنوعة الغالية التي تزداد حضوراً وسيطرة، كعمليات استنزافية للأرباح النفطية التي لا تتجذر في بلدانها إنتاجاً. ولهذا فإن مواكبةَ البضائعِ والمصارفِ التابعة لدولتها سوف تكون مطردةً مع تنامي رفعها للأجور، سواءً بتدخيل الشغيلة أموالهم المحدودة في مصارف دولتها، أو شرائهم البضائع التابعة لجنسيتها أو للعالم الغربي والرأسمالي عموماً، وهذا يتدفقُ مع درجةٍ محددة من تطورِ الإعلان والحسابات المصرفية والعمارة المحلية والمناهج المدرسية والخدمات المتعددة. والقصدُ من ذلك كله هو تكونُ سوقٍ استهلاكية مربحة ولكنها في ذات الوقت غيرِ منتجة، تقعُ في قبضات هذه الشركات المختلفة التكون، العاملةِ على شفط ما بقي من الأجور، فيغدو المسكنُ المرفه والأثاث الغربي والبضائع المعمرة هي المكمل لعمل شركة النفط أي هي أشكالُ استعادةِ مبالغِ الأجور المدفوعة. إن هذا كله يكونُ متدرجاً تاريخياً ولا يحدثُ دفعةً واحدةً بسببِ تاريخيةِ وتدرجِ بيع البضاعة، فليست ظروفُ إنتاج البضاعة هي وحدها التي تقررُ المصائرَ الاقتصادية، بل كذلك بيع البضاعة في الأسواق، وهذا البيعُ مرتبطٌ بسلسلةٍ من العلاقات المعقدة، بين البائعين المشتركين المتناقضين، وهما البلدُ المنتجُ والشركةُ صاحبة الامتياز، وبينهما وبين الأسواق. ومن هنا فإن هذا النزاع الخفي، ووقوع البضاعة في أيد أخرى، ومجيء عمليات اقتصادية جديدة مغايرة لما سبق، كل هذا يكونُ تاريخياً مرتبطاً بشروط متعددة أغلبها مجهول ومعتمد على قدرية السوق، ومن هنا يزدهرُ الوعي الديني القدري غير العقلاني على ضفتي البائعين الشارين. لكن الجانب المسيطر الغربي سيقى المتحكم في العلاقة وثمارها وأسعارها لكونه المنتج الرأسمالي الحقيقي، حيث ان المثقاب النفطي الأول من اختراعه وإعادة إنتاج المشتقات تابعاً لجامعاته العلمية، وتوزيع المصانع البتروكيماوية الملوثة جزء من خطته لتحسين بيئته، فيغدو الرأسمالُ الأساسُ العالمي الغربي هو صانعُ الأرباح والشمس التي تدور حولها رساميل وطنية صغيرة متخلفة ملوثة بالاستهلاك والانحصار في المراحل كافة لتطور صناعة النفط.
 
صحيفة اخبار الخليج
16 اغسطس 2008