المنشور

عار الشامتين

في‮ ‬ندوةٍ‮ ‬بمجلس الدوي‮ ‬في‮ ‬المحرق،‮ ‬منذ شهور،‮ ‬تساءل الأستاذ جاسم مراد‮: ‬هل قدمت التيارات الإسلامية فنانا أو شاعرا أو أديبا،‮ ‬قبل أن‮ ‬يعلق بما معناه،‮ ‬طالما كانت قائمة المحظورات والمحرمات لدى هذه التيارات بالاتساع الذي‮ ‬هي‮ ‬عليه‮ ‬،‮ ‬فمن‮ ‬غير المنطقي‮ ‬أن تقدم أناساً‮ ‬موهوبين في‮ ‬الحقول التي‮ ‬أشار إليها‮.‬ يمكن تعميم هذه الملاحظة النبيهة لأبي‮ ‬زياد بالقول إن الموهوبين أدباً‮ ‬أو شعراً‮ ‬أو فناً،‮ ‬حتى لو نشأوا في‮ ‬معاطف التيارات الإسلامية سرعان ما‮ ‬ينتهي‮ ‬بهم الأمر إلى التمرد عليها،‮ ‬حين تدفع بهم موهبتهم إلى آفاق جديدة من المعرفة،‮ ‬تكشف لهم محدودية هذه التيارات وضيق أفقها،‮ ‬ووقوفها،‮ ‬في‮ ‬أوجه كثيرة،‮ ‬على النقيض من السوية الإنسانية حين تجعل من الفن وما هو في‮ ‬حكمه عيباً‮ ‬أو حراماً‮.‬ تذكرت قول الأستاذ جاسم مراد وأنا أطالع التعليقات التي‮ ‬نشرت على بعض المواقع الاليكترونية من منتسبي‮ ‬حركة حماس وغيرها من التنظيمات الإسلامية في‮ ‬البلدان العربية،‮ ‬بعد رحيل الشاعر الفلسطيني‮ ‬الكبير محمود درويش،‮ ‬وهي‮ ‬تعليقات،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن استهانتها بحرمة الموت والميت،‮ ‬تفضح خواء أصحابها وضحالة تفكيرهم،‮ ‬وافتقادهم ليس فقط للحساسية الثقافية والفنية وحدها،‮ ‬وإنما الحساسية الإنسانية‮.‬ أكثر من ذلك تفضح هذه التعليقات طبيعة الورش التحريضية ضد كل ما هو تقدمي‮ ‬وأصيل وحضاري‮ ‬داخل تنظيماتهم،‮ ‬لأن هذا النوع من التفكير لا‮ ‬يأتي‮ ‬من الفراغ،‮ ‬إنما‮ ‬ينطلق من تربية حزبية تقيم تصوراً‮ ‬قائماً‮ ‬على نفي‮ ‬الآخر،‮ ‬فكرةً‮ ‬كان أو موقفاً‮ ‬أو رأياً‮.‬ علينا تخيل فداحة الأمر حين نلحظ أن التعليقات المسيئة تأتي‮ ‬في‮ ‬حق شاعر ومناضل بوزن محمود درويش،‮ ‬هو بإجماع العالم قيمة شعرية وإنسانية كبرى،‮ ‬لا للفلسطينيين والعرب وحدهم،‮ ‬وإنما لكل عشاق الحرية والنور والحضارة والحياة في‮ ‬كل مكان‮.‬ يحق لفلسطين وللفلسطينيين أن‮ ‬يفخروا ويتباهوا بأن بلادهم أنجبت محمود درويش الذي‮ ‬قدم فلسطين للعالم،‮ ‬بمقدار لا‮ ‬يقل أبدا،‮ ‬لا بل‮ ‬يفوق،‮ ‬ما قدمه المناضلون بالسلاح‮.‬ وأظهر الفلسطينيون من مختلف الأعمار والمناطق الذين احتشدوا بمئات الآلاف وهو‮ ‬يودعون شاعرهم الكبير إلى مثواه الأخير في‮ ‬رام الله،‮ ‬شعورهم الفطري‮ ‬السوي‮ ‬تجاه شاعرهم الكبير،‮ ‬وقدموا أنفسهم في‮ ‬أروع صورة‮ ‬يمكن لشعب أن‮ ‬يقدم نفسه للعالم،‮ ‬كشعبٍ‮ ‬متحضر‮ ‬يقدر قيمة الإبداع،‮ ‬ويدرك ما الذي‮ ‬يمثله محمود درويش في‮ ‬وجدانه،‮ ‬هو الذي‮ ‬ارتقى بشعره وبقضية شعبه إلى مستوى النشيد الكوني‮ ‬المتسامي‮ ‬على التعصب والكراهية،‮ ‬والمنحاز بعمق وبرهافة إنسانية عالية لقيم التسامح والعدالة والتقدم والأخوة بين البشر في‮ ‬وجه صناع الحروب والاستبداد والعسف‮.‬ وهذا‮ ‬يظهر إلى أي‮ ‬مدى تبدو تعليقات الانترنت المشار إليها خارجة على الروح السوية للبشر،‮ ‬وعلى هشاشة المشروع الذي‮ ‬يحمله كتبتها،‮ ‬الذين‮ ‬يتوهمون،‮ ‬كما هم في‮ ‬كل مكان،‮ ‬إن النضال لم‮ ‬يبدأ إلا معهم،‮ ‬مُسقطين بذلك التضحيات الجليلة لأجيال سبقتهم وتيارات أعرق منهم،‮ ‬يوم كان الإسلام السياسي‮ ‬لصيق السلطات وحليفها‮.‬ ‮ ‬النضال ضد الاحتلال هو معركة حضارية في‮ ‬المقام الأول،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن لأمرئ‮ ‬يملك الجرأة للشماتة بموت محمود درويش أن‮ ‬يكون مناضلاً‮ ‬جاداً،‮ ‬فمعاداة الحضارة والثقافة هي‮ ‬سمة المستبدين لا المناضلين‮.‬
 
صحيفة الايام
16 اغسطس 2008