المنشور

نموذجان في‮ ‬لحظة واحدة‮!!‬

تزامنت مسألتا طلب تقديم الرئيس السوداني‮ ‬البشير للمحكمة الجنائية الدولية،‮ ‬والتي‮ ‬أثار زوبعتها أوكامبو فجأة،‮ ‬مع العلم أنها مبيّتة لكونها كانت تطبخ من وراء الكواليس بكل هدوء لوقت طويل،‮ ‬فأقام أوكامبو بتلك الدعوة العالم ولم‮ ‬يقعده في‮ ‬الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية وبشكل خاص في‮ ‬السودان نفسه،‮ ‬والذي‮ ‬بات همه الداخلي‮ ‬والخارجي‮ ‬الدفاع عن وضع الرئيس ومن خلاله الدفاع عن سيادة البلاد وشرعيتها الدولية والسياسية،‮ ‬فمحاكمة الرئيس السوداني‮ ‬تمثل محاكمة الوطن السوداني‮ ‬الجريح نفسه،‮ ‬والمعرض لمشاريع تقسيمية عدة إن لم‮ ‬يتحرك الشعب السوداني‮ ‬نفسه من اجل مشروع جديد للسودان الديمقراطي‮ ‬القائم على معالجة ووحدة وطنية حقيقية‮ ‬يتم فيها تقاسم وتداول السلطة من خلال المناخ الديمقراطي‮ ‬السلمي‮ ‬القائم على شرعية المواطنة المتساوية وحق الانتخاب والترشح لكل مواطن سوداني‮ ‬دون استثناء،‮ ‬كجزء أساسي‮ ‬من حق وإرادة الشعب التي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يؤسس لها الدستور ويحترمها الجميع ويحتكم لها الجميع بكل رحابة وواقعية سياسية واقتناع ومساواة وتسامح‮. ‬ومن خلال هذا المشروع السياسي‮ ‬الانتخابي‮ ‬والديمقراطي‮ ‬القائم على أساس التدوير والتداول للسلطة تنزع من أنياب العسكر والبطانات القديمة كل مخالبها،‮ ‬بدلاً‮ ‬من المتاجرة السياسية بأمور وطنية ودينية مضللة ومخادعة‮. ‬
ما قامت به سابقا المنظمات الدولية والداخلية حول قضايا دارفور والجنوب والواقع السوداني‮ ‬المزري‮ ‬لسنوات طويلة من ممارسات القمع والإقصاء والعصبيات الدينية وغير الدينية،‮ ‬كانت لا بد وان تفضي‮ ‬لمثل هذه التدخلات الفجة،‮ ‬فمن جهة كانت هناك ممارسات إثنية ودينية وجغرافية‮ ‬غير عادلة تم على أساسها اقتسام الثروة والسلطة،‮ ‬ما حرك الماء الراكد في‮ ‬السودان بعد أن تفاقمت الظروف الحياتية السيئة للسودانيين والسودان‮. ‬وكما‮ ‬يقال‮ »‬رب ضارة نافعة‮«‬،‮ ‬حركت المياه الراكدة في‮ ‬بعض الينابيع المتجمدة،‮ ‬بعد أن تحول السودان إلى كتل وذرات من الشظايا والانقسامات،‮ ‬وأفرزت الحياة السياسية على مدار العقود الأربعة منظمات وقوى متعددة لم‮ ‬يدرك النظام المركزي‮ ‬كيف‮ ‬يعالجها جذريا لأسباب ومكونات هيكلية في‮ ‬بنية النظام العسكري‮ ‬نفسه آنذاك والمحتمي‮ ‬بنزعة دينية لم تعد شكلاً‮ ‬وصيغة نهائية تناسب السودان التعددي‮ ‬بتاريخه الطويل من انجازات نضالية ووعي‮ ‬سياسي‮ ‬متقدم‮. ‬
تأتي‮ ‬زوبعة تقديم البشير للمحاكمة الدولية في‮ ‬ذات الوقت الذي‮ ‬تم فيه تقديم كاراجيتش لمحاكمته إلى محكمة لاهاي‮ ‬نفسها بتهم الإبادة العرقية وجرائم الحرب وغيرها من التهم،‮ ‬كمغزى سياسي‮ ‬عالمي‮ ‬عن أن لا أحد بإمكانه الإفلات من العقاب،‮ ‬ولكن ذلك الموضوع ليس دائما‮ ‬يتم انجازه،‮ ‬فمن‮ ‬يلعب بالأوراق الخلفية للمحاكمة والمحكمة قوى دولية لها اليد الطولى في‮ ‬اصطياد النمور الهاربة أو في‮ ‬تحديد حدود الغابات التي‮ ‬تركض فيها،‮ ‬فهناك سياج لا‮ ‬يمكن لتلك النمور الهائجة تخطيه‮. ‬هكذا ترك كاراجيتش طوال هذه السنوات‮ ‬يعيش حياته المتخفية،‮ ‬كاشفا في‮ ‬هذه اللحظة عن تلك الصفقة الأمريكية مع الجانب الصربي‮ ‬في‮ ‬البوسنة قبل الانتهاء من التوقيع على اتفاقية دايتون،‮ ‬التي‮ ‬كان مهندسها وعرابها السفير الأمريكي‮ ‬ريتشارد هولبروك الذي‮ ‬كان وسيطا في‮ ‬قبرص لاحقا ولكن القبارصة اليونانيين لم‮ ‬يقبلوا بطريقته الملتوية فانتهت مهمته دون أن‮ ‬ينجح في‮ ‬تمرير أوراقه‮. ‬
في‮ ‬اللعبة الحالية هناك طرفان أحدهما لا بد وان‮ ‬يكون كاذبا،‮ ‬إما هولبروك أو كاراجيتيش أو الاثنان معا،‮ ‬فالأول‮ ‬يدّعي‮ ‬انه لم‮ ‬يعد كاراجيتيش بعدم تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية المعنية بجرائم الحرب لمجرد الموافقة والانتهاء من حرب البوسنة بتوقيع اتفاقية دايتون،‮ ‬فيما‮ ‬يؤكد كاراجيتش عن انه اتفق مع هولبروك عبر الوسيط،أن تكون الصفقة،‮ ‬صفقة عدم التسليم،‮ ‬مقابل اختفاء كاراجيتيش والانسحاب من الحياة العامة‮. ‬ما‮ ‬يثير الاستغراب أن تلك الصفقة لم‮ ‬يتم توثيقها رسميا،‮ ‬ما‮ ‬يعني‮ ‬أن الساسة بإمكانهم نقض وعودهم بكل سهولة متى ما تغيرت المصالح،‮ ‬ومن جهة أخرى تبدو مسألتان مهمتان لا بد من إجلاء سرّهما الغامض،‮ ‬الأول لماذا عاش كاراجيتيش حياة سرية إن لم نقل نصف سرية طالما انه ضمن من هولبروك ومن ثم قوى‮ »‬النيتو‮« ‬بعدم التعرض له وتسليمه؟‮. ‬والثاني‮ ‬هل كان الاتفاق معنيا بمدة زمنية لها علاقة بطبيعة اللعبة؟‮ ‬
الأوراق المعلنة حاليا في‮ ‬وسائل الإعلام من شخصية تعيش خلف القفص بمستوى كاراجيتيش تحدد الدور الأمريكي‮ ‬الخفي‮ ‬في‮ ‬تحريك ماكينة الإعلام الضخمة لمحاكمة واصطياد كاراجيتش،‮ ‬فقد نفد صبر الاتحاد الأوربي‮ ‬وديمقراطيي‮ ‬الصرب من معوقات صرب البوسنة‮ – ‬التي‮ ‬تلعب دورا معطلاً‮ ‬في‮ ‬دخولهم في‮ ‬عضوية الاتحاد الأوروبي‮ – ‬الذين رغم أقليتهم في‮ ‬الإقليم‮ ‬يصرون على التحكم في‮ ‬الأغلبية البوسنية وغيرها دون مراعاة المتغيرات الدولية الجديدة في‮ ‬القرن الواحد والعشرين وكل ما اعترى القارة الأوروبية من تغيرات كبيرة‮. ‬
ما قدمه الإعلام الأمريكي‮ ‬والأوربي‮ ‬في‮ ‬قضيتي‮ ‬البشير وكاراجيتيش لا‮ ‬يبعدنا كثيرا عن قدرتهما الأخطبوطية أيضا على تغيير المياه في‮ ‬دهاليز الأمم المتحدة،‮ ‬فلتلك القوتين الأمريكية والاتحاد الأوروبي‮ ‬المتحالفتين،‮ ‬مفاتيحهما الكثيرة مثل ما لهما أيضا مغاليقهما من العلاقات الخفية والمعلنة،‮ ‬وقد كان واضحا توقيت لعبة كاراجيتيش والبشير في‮ ‬لحظة زمنية واحدة‮ »‬فالمواطن العالمي‮« ‬العادي‮ ‬في‮ ‬زمن الثورة المعلوماتية سيجد نفسه حائرا في‮ ‬الورقتين وسيسأل نفسه دون شك ما الذي‮ ‬يدور في‮ ‬العالم هذه اللحظة؟ وأيهما أفضل أو اقل أو أكثرهما‮ ‬يستحق المحاكمة،‮ ‬إذ تختلط الأوراق السياسية كلما خرجت من دائرة النخب السياسية الواعية،‮ ‬والتي‮ ‬تمتلك صياغة القرار وتفسيره وتبريره‮! ‬
ربما سيجد الإنسان العادي‮ ‬عندما‮ ‬يحتار في‮ ‬المتابعة والاهتمام‮ ‬يوميا بين قضيتي‮ ‬كاراجيتيش والبشير،‮ ‬انه سيفضل لحظتها قرار متابعة أخبار الأولمبياد في‮ ‬الصين المتهمة أيضاً‮ ‬بأمور كثيرة من الماكينة الدولية نفسها‮! ‬

صحيفة الايام
10 اغسطس 2008