المنشور

أولمبياد بكين بعيون سياسية (4)

التحدي اللغوي على الأرجح أن دورة بكين المقرر افتتاحها ستكون أكثر الدورات الأولمبية الدولية إشكالية في مسألة التفاهم اليومي اللغوي بين الوفود الرياضية والمشجعين والسياح الرياضيين ومختلف الوفود الإعلامية الأجنبية من جهة، وبين أفراد الشعب الصيني من جهة أخرى، ولاسيما ممن سيحتكون منهم مباشرة بحكم أعمالهم ومهنهم بهذه الوفود الزائرة وعامة السياح الرياضيين والمقدر عددهم جميعا بأكثر من مليون زائر، لا بل يشير بعض التقديرات إلى أنهم قد يصلون إلى مليوني زائر، ولعل في مقدمة هذه الفئات سواق التاكسي والحافلات، ومقدمو مختلف الخدمات الأولمبية، وموظفو الفنادق والبائعون في الأسواق والمجمعات التجارية« وموظفو المؤسسات المصرفية وموظفو المطار واجهة البلد الأولى.
ونستطيع القول إن الغالبية العظمى من هذه الفئات ومن خلال تجربة عيانية لمسها كاتب هذه السطور يجهلون كل اللغات العالمية الرئيسية التي تستخدمها شعوب العالم إما بصفتها لغتها الأولى أو الثانية، وإما كلغة وسيطة ثالثة للتخاطب والتفاهم، وعلى رأس هذه اللغات اللغتان الإنجليزية والفرنسية. وبالرغم مما بذلته وتبذله السلطات الصينية والجهات المنظمة المعنية بالتحضير للأولمبياد من جهود كبرى خلال العامين الماضيين لتعليم وإكساب أفراد هذه الفئات، التي ستكون على احتكاك يومي مع ضيوف الأولمبياد، بعض الأساسيات الأولية للغة الإنجليزية باعتبارها أكثر لغات العالم شهرة وانتشارا فإننا نستطيع القول بكل اطمئنان إن المحصلة من هذه الاستعدادات اللغوية مازالت متواضعة جدا بل لا تكاد تذكر، وعلى الأخص فيما يتعلق بسواق سيارات الأجرة وموظفي الفنادق، وبضمنها الفنادق الكبرى ذات الخمس النجوم وموظفي البنوك والمؤسسات المصرفية والعاملين في المطاعم. وإنها لمفارقة تاريخية حضارية لغوية عالمية مؤلمة حقا أن تكون لغة شعب البلد الأكثر سكانا والأعرق حضارة في العالم وتصل نسبة تعداده إلى خمس سكان العالم هي من أكثر اللغات التي تجهلها شعوب العالم، وأن يكون هو نفسه من أكثر شعوب العالم جهلا باللغات العالمية الكبرى الأكثر شهرة وتداولا في العالم وعلى رأسها «الإنجليزية«. وقد لعبت العزلة التاريخية المرة خلال فترة الأسر الملكية، ولاسيما خلال مراحل الركود، فضلا عن العزلة التي أرسيت وتكرست بعدئذ خلال عهد القائد الراحل ماوتسي تونج مؤسس جمهورية الصين الشعبية الحالية.. كل ذلك لعب دورا في تكريس عزلة الشعب الصيني عن شعوب العالم وعدم احتكاكه لغويا بها، ولاسيما الشعوب الأوروبية والغربية المتقدمة. ولم يتم التخلص بعض الشيء من هذه العزلة إلا بعد تدشين سياسة الإصلاح والانفتاح بعد موت ماوتسي تونج على يد خليفته دنج هسياو بنج. ومع ذلك فإن هذا الانفتاح لم يكن كافيا لتخليص الشعب الصيني وعلى الأخص نخبته المثقفة والمتعلمة والعاملون في مجالات السياحة من جهله بلغات العالم الرئيسية وفي مقدمتها الإنجليزية. ومن المتوقع بقوة أن تحدث يوميا إشكالات وطرائف ومواقف عديدة لا حصر لها بسبب انعدام لغة عالمية وسيطة للتفاهم بين وفود وزوار الأولمبياد وبين أفراد وفئات الشعب الذين سيحتكون بهم يوميا إذ لا مجال هنا سوى الاستعانة بلغة الصم والبكم ألا هي لغة الإشارات، كما فعل ويفعل العديد من الزوار والسياح الأجانب للصين، وهذا ما سيوفر مادة دسمة لتعليقات الصحافة العالمية أثناء الأولمبياد. أما على مستوى الوفود الرياضية وكبار القادة والشخصيات المرافقة لها فقد قامت بكين بأضخم استعدادات ممكنة لمواجهة هذا التحدي وحل هذه الإشكالية اللغوية وذلك من خلال تخصيص أكبر فريق ممكن من المترجمين المرافقين لتلك الوفود على اختلاف لغاتهم بما لا يقل عن 41 لغة عالمية وبضمنها العربية. وسيقع العبء الأساسي للقيام بهذه المهام في خدمة الترجمة على أساتذة وطلبة الجامعات، وعلى الأخص أقسام اللغات في جامعة بكين وجامعة الدراسات الأجنبية وجامعة شنغهاي، حيث تبين لنا أن غالبيتهم العظمى المؤهلة لغويا تم تجنيدهم لهذه الغاية وطلب منهم تأجيل إجازاتهم السنوية، ومع ذلك فإن هذا الجيش الكبير من المترجمين لن يستطيع الحيلولة دون حدوث الإشكاليات اللغوية اليومية المتوقعة في معاملات الوفود والزوار اليومية في الأسواق والشوارع والمؤسسات السياحية.
 
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2008