المنشور

البشير والقضاء الدولي

أثار إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو اوكامبو إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير ردود فعل قوية متباينة على الصعيدين العربي والدولي. فبينما نددت واستنكرت بشدة الحكومات العربية بالمذكرة واعتبرتها تدخلا في شئون السودان الداخلية وتعديا على سيادتها الوطنية ومن ثم أعلنت تضامنها مع الرئيس البشير في هذه القضية وسارعت أيضاً إلى عقد اجتماع استثنائي طارئ على مستوى وزراء الخارجية في إطار الجامعة العربية، فإن هذا القرار القضائي الدولي أثار انقساماً في الموقف حوله فيما بين قوى المعارضة العربية، وبضمنها المنظمات الحقوقية، أما على الصعيد السوداني فقد نددت بعض قوى المعارضة على نحو عابر وعلى استحياء بالقرار فيما التزم بعضها الآخر بالصمت في حين لقي ترحيباً من بعض القوى الدارفورية والجنوبية. وبالمثل فقد لقي إعلان اوكامبو على الصعيد الدولي ترحيبا قويا لدى المنظمات الحقوقية الدولية وعلى رأسها منظمتا «امينستي« و«هيومن رايتس ووتش« أما على المستوى الرسمي فقد تفاوتت درجات ردود الفعل الرسمية المرحبة بقرار المحكمة، وأبرز موقف مؤيد للقرار تمثله غربياً فرنسا فيما عارضته بعض الدول الكبرى الأخرى كروسيا والصين. أما الموقف الأمريكي فقد تميز بالترحيب الضمني المخفف وذلك لما هو معروف عن واشنطن من موقف متحفظ لنظام المحكمة الجنائية الدولية حيث لم توقع على اتفاقية نظام المحكمة التي بلغ عدد الدول الموقعة عليها 107 دول، فضلاً عن ان الولايات المتحدة نفسها منذ دخول اتفاقية إنشاء المحكمة حيز التنفيذ سعت إلى عقد سلسلة من الاتفاقيات مع مجموعة كبيرة من الدول (90 دولة) من ضمنها إسرائيل والأردن، لحمل هذه الدول على الالتفاف ونفض اليد من الالتزامات المترتبة عليها في حال سعت المحكمة إلى ملاحقة مواطنين أمريكيين متهمين في قضايا انتهاكات وجرائم انسانية. واللافت في الموقف الرسمي العربي على مستوى الجامعة العربية هو سرعة تحرك الدول العربية للتصدي لهذا القرار الذي أصدره المدعي العام أوكامبو على نحو غير مسبوق في القضايا والأحداث العربية الجسيمة الطارئة ولاسيما تلك المتعلقة منها بالقضايا المصيرية كما في فلسطين والعراق ولبنان. علما بأن الاتهامات التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية إلى الرئيس البشير، كما هو معروف، تتعلق بتورطه في حرب إبادة جماعية في إقليم دارفور المضطرب، وخمس جرائم ضد الانسانية وجريمتي اغتيال. وإذا كانت دول العالم الثالث التي تحكمها أنظمة شمولية، ومن ضمنها معظم دولنا العربية قد اعتادت منذ سنوات بعيدة أن تتعرض لانتقادات شديدة دولية من قبل المنظمات الحقوقية الدولية لسجلها في حقوق الإنسان ومع ذلك فإن هذه الانتقادات تثير انزعاجها وسخطها وتسعى بكل السبل إلى نفيها والتنديد بها فمن باب أولى أن يثير سخطها وقلقها بشدة إعلان صدور مذكرة دولية لإلقاء القبض على رئيس أو قائد دولة من رؤسائها وقادتها بناء على اتهامه شخصياً بارتكاب انتهاكات وجرائم أو إبادة بحق شريحة كبيرة من أبناء شعبه. وهكذا فلئن كان بالامكان بصورة أو بأخرى إخلاء مسئولية أي رئيس أو قائد دولة عن ارتكاب جرائم بحقوق الانسان على أيدي أجهزة دولته الأمنية والعسكرية على اعتبار يمكن القول في أسوأ الأحوال دفاعاً عن سجل الدولة في حقوق الإنسان انها مجرد تجاوزات فردية لا علم للرئيس أو القيادات التنفيذية بها فإنها في الحالة الجديدة المستجدة التي استحدثتها محكمة الجنايات الدولية يواجه فيها الرئيس الاتهامات مهما كانت دقتها أو درجة صحتها وجهاً لوجه أمام القضاء الدولي ويتحمل المسئولية الأولى عن وقوعها. وهنا يمكن فهم سر الانزعاج الشديد الذي بدا عليه الرئيس السوداني على نحو لم يكن عليه البتة في كل الاتهامات الدولية السابقة التي طاولت حكومته بارتكابها انتهاكات لحقوق الانسان، لا بل حتى لدى اتهام المحكمة لاثنين من كبار المسئولين في حكومته الا هما علي كوتشيب (أو القشيب) وأحمد هارون بارتكاب جرائم حرب في دارفور وطلبها من الحكومة السودانية تسليمهما وهو ما رفضه البشير وحكومته بشدة وأدى إلى تعقيد الموقف بعدئذ. فمع ان الرئيس البشير يدرك جيداً استحالة مقدرة محكمة الجنايات الدولية على المضي قدماً في ملاحقته واعتقاله وذلك لما لهذا القرار من أبعاد وتعقيدات سودانية ودولية خطيرة غير مسبوقة ولما يمثله القرار من تعدٍ فعلي على سيادة السودان، أيا تكن السلطة الحاكمة فيه، فإن مغزى القرار انما يتمثل في قوته المعنوية التي تلحق أشد الضرر بهيبة وسمعة رئيس أي دولة يتعرض لمثل هذا الاتهام المباشر الصريح كمجرم حرب أو سفاح مستبد تطارده «العدالة الدولية«. والتنديد بالقرار ورفضه بشدة أو طرح حلول بديلة للملاحقة القضائية لا يحول البتة في واقع الحال من الآثار المعنوية والنفسية التي لحقت بأي رئيس دولة تطاوله اتهامات محكمة الجنايات الدولية بعد أن وقعت الفأس في الرأس، وهنا بالضبط مكمن انزعاج البشير الشديد وسائر الأقطاب العرب.
 
صحيفة اخبار الخليج
2 اغسطس 2008