المنشور

المثقفون والديمقراطية

على المثقف أن‮ ‬يتسلح بأمرين كي‮ ‬يجدر به أن‮ ‬يكون مثقفاً‮ ‬حقاً،‮ ‬أولهما الذاكرة وثانيهما الشجاعة‮. ‬الذاكرة صنو الثقافة التي‮ ‬هي‮ ‬بدورها مرادفة للتاريخ،‮ ‬فمثال الماضي‮ ‬ليس دائماً‮ ‬مرآة خادعة‮. ‬والشجاعة ضرورية للمثقف لأنه‮ ‬يجب دائماً‮ ‬على العقل أن‮ ‬يتحدى مكائد المادة وأحابيل المجتمع‮. ‬ في‮ ‬هذا السياق تبدو الفلسفة والتاريخ وحدهما القادرين على تكوين هذه الذاكرة وهذه الشجاعة‮. ‬ هذه الفكرة جاءت في‮ ‬مقدمة كتاب‮ ‬يحمل عنوان‮ »‬المثقفون والديمقراطية‮«‬،‮ ‬هو عبارة عن مجموعة أوراق قدمت في‮ ‬ندوة علمية عقدت تحت هذا العنوان منذ سنوات في‮ ‬فرنسا،‮ ‬وقام الدكتور خليل أحمد خليل بنقلها إلى العربية‮.. ‬اهتمت هذه الأوراق بمناقشة قضايا مفصلية تتصل بالدور الذي‮ ‬يتعيّن على المثقفين الاضطلاع به في‮ ‬ما‮ ‬يوصف بأنه حقبات التوتر السياسي‮ ‬الاقتصادي‮ ‬أو الاجتماعي‮.  ‬وينطلق أحد الباحثين من ملاحظة جوهرية جديرة بالمعاينة ليس في‮ ‬فرنسا أو أوروبا فحسب،‮ ‬وإنما في‮ ‬البلدان النامية أيضاً،‮ ‬وهي‮ ‬فقدان الشبيبة حماستها للأفكار الثورية الكبرى،‮ ‬مما‮ ‬يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت لذلك علاقة بمفاعيل التقدم التقني،‮ ‬الذي‮ ‬يقال إنه‮ ‬يشوّه طبيعة الثقافة تفتيتاً‮ ‬وتمزيقاً،‮ ‬فمن المناسب،‮ ‬على الفور،‮ ‬مجابهة التحدي‮ ‬الذي‮ ‬تطلقه الثقافة في‮ ‬مواجهة العقل‮..‬لذا‮ ‬يأتي‮ ‬الإلحاح على محورية التاريخ،‮ ‬أو الوعي‮ ‬بهذا التاريخ من بابٍ‮ ‬أدق لأن الإنسان في‮ ‬هذا العصر،‮ ‬والمحروم من تاريخه،‮ ‬صار طريدة سهلة لكل أشكال القهر،‮ ‬وأخذ‮ ‬يتخلى عن ثقافته ببطء‮. »‬إنه مستعد للبقاء أكثر مما هو قادر على الحياة‮«.  ‬هذا الإلحاح على استحضار التاريخ مهم لأن فيه توكيداً‮ ‬على مصادر أو جذور الحضارة الإنسانية،‮ ‬وليس الحضارة الغربية وحدها‮. ‬وهذه المصادر بدءاً‮ ‬من الأزمنة الإغريقية الرومانية القديمة مروراً‮ ‬بفكر النهضة وروح الأنوار وثورة حقوق الإنسان،‮ ‬والديمقراطية السياسية،‮ ‬الاقتصادية والاجتماعية،‮ ‬تبدو بمثابة مرتكزات لا بد من العمل على صونها ومعرفتها وإغنائها‮.. ‬وأمر لافت للانتباه أن مجتمعاً‮ ‬ديمقراطياً‮ ‬عريقاً‮ ‬مثل فرنسا‮ ‬يطرح على نفسه أسئلة بهذا العمق والجدية،‮ ‬ويجد من الضروري‮ ‬التوكيد على الثقافة بوصفها شرطاً‮ ‬من شروط التطور الديمقراطي،‮ ‬وبصفتها بديلاً‮ ‬لضغط الإرهاصات المختلفة التي‮ ‬يتعرض لها الإنسان في‮ ‬عالم‮ ‬ينزع فيه كل شيء ليكون مادياً‮ ‬واستهلاكياً،‮ ‬لتبدو هذه الثقافة فهماً‮ ‬يستوجب مجهوداً‮ ‬إبداعياً‮ ‬وفكرياً‮ ‬لا‮ ‬يرضى بالتكرار اللفظي‮ ‬يمكنه وحده أن‮ ‬يعيد للإنسانية رسالاتها النبيلة‮.. ‬ البشرية بحاجة إلى علماء كما هي‮ ‬بحاجة إلى رسامين وشعراء وموسيقيين،‮ ‬لذا‮ ‬يتعين النظر الفكري‮ ‬في‮ ‬الثقافة بذاتها ولأجل ذاتها بوصفها قوة ضرورية للوقوف في‮ ‬وجه تنميط الإنسان وتجريده من عالمه الروحي،‮ ‬وإعادة شروط تطوره الحر إليه،‮ ‬حين‮ ‬يصبح لكل فرد مجال إبداع خاص به،‮ ‬ومصدر ثقة في‮ ‬المستقبل،‮ ‬كردٍ‮ ‬على النزوع الرهيب الذي‮ ‬به‮ ‬يتحول العالم إلى‮ »‬سوبرماركت‮« ‬كبير‮.‬
 
صحيفة الايام
29 يوليو 2008