المنشور

حاكمية القانون‮.. !‬


في شأن موضوع دولة القانون وجدنا قراءتين، قراءة  إيجابية تؤيد حتمية إرساء مفهوم سيادة القانون وما يستتبعها من بناء دولة القانون بحيث يكون تعزيز النظام القضائي في صدارة الأولويات، وقراءة أخرى لم تنظر إلى ما أثير بهذا الخصوص بشكل إيجابي وفي سياقه الصحيح، ولذلك استاء من استاء حينما طرحنا الدعوة بإعطاء الهيبة والاحترام للقانون وضرورة انصياع الجميع الكبير قبل الصغير لسيادة وحاكمية القانون وكأن في ذلك ما يثير الريبة أو الالتباس وما يستدعي الاستياء من الأصل.
في القراءة الأولى وجدنا من ينظر إلى أن دولة القانون تبدأ بدولة القضاء الذي هو المعيار في حماية وصون الحقوق والحريات والكرامات، ووجدنا من يضيف إلى ذلك بأن دولة القانون تفرض معالجة أولويتي القضاء والإدارة العامة، فمن يريد دولة القانون لابد أن يعد العدة لقيام قضاء منزه ومستقل وفاعل وسريع، دون تجاهل حتمية العلاقة بين النزاهة والاستقلالية.
أما الأولوية الثانية فهي الإدارة العامة، لأنه اذا كان ثمة إقرار بأنه لا دولة قانون من دون قضاء منزه ومستقل، فإنه لابد اكتمالاً للصورة أن نستوعب بوعي بأنه لا دولة من دون إدارة تقوم عليها الدولة، فكما تكون الإدارة تكون الدولة والعكس صحيح، ولا تستقيم الدولة، أي دولة مهما تكـن “فاضلة” ما لم تتوافر فيها شروط قيام إدارة تمتلك مقومات الكفاءة والرشادة والنزاهة، لأن الإدارة المقصرة أو المتخلفة أو الفاسدة أو البيروقراطية في أي بلد تسيء إلى الحكومة وتضعف الأسس التي تقوم عليها الدولة، وإذا كانت الحكومة هي التي ترسم السياسات، فإن الإدارة هي التي تنفذ السياسات، ويمكن للحكومة أن ترسم أعظم وأفضل السياسات، ثم يأتي تنفيذ الإدارة لهذه السياسات فيشوهها، أو يعطلها، ويسيء إلى الحكومة أعظم إساءة، ولن يجدى حسن نوايا الحكومة إذا كانت عاجزة عن محاسبة الإدارة ومعالجة قصورها ووقف كل مظاهر الخلل والانحراف والفساد، وفساد الإدارة ينبغي أن يفهم بأنه لا يعني بالضرورة فقط الارتشاء والسرقة والنهب، فالإدارة حتى وان ادعت التقوى والصلاح تفسد إذا كانت إدارة متسيبة، عاجزة تعيّن وتبقي غير المؤهلين في مناصبهم، تنفذ السياسات بطريقة خاطئة لأن هذا يؤدي إلى نتائج سيئة لا يقل عن نتائج الارتشاء والسرقة والنهب.
إذن فالخلاصة انه لا إدارة نزيهة من دون دولة القانون، وأنه على هذا تتداخل الأولويتان لتصبحا أولوية واحدة: دولة القانون تبدأ بدولة القضاء، ودولة القضاء لا تستقيم من دون دولة القانون الذي يطبق على الجميع من دون استثناء، وعلى هذا الأساس تنظم الحياة وتصان الحريات، ويمنع الظلم، وتمنح الحقوق، والحقوق هنا تلك التي يجب ألا تتجمد على أعتاب النصوص، بل تغوص إلى الأعماق، تفتش عن الحاجات والأحلام، وتلبي تطلعات الناس وتكون أساس الديمقراطية والتنمية والعدالة، لذلك لا ينبغي أن تعد إشارة عابرة تلك التي شدد عليها قبل أيام عاهل البلاد حفظه الله والمتصلة بنزاهة القضاء واستقلاليته وحياديته، وتطور الجهاز القضائي البحريني، فهي إشارة من شأنها أن تفتح أبوابا جديدة تكثر من عناصر الموثوقية في جاهزية ونزاهة السلطة القضائية وتعزيز أوضاعها واحترام أحكامها والالتزام بتنفيذها.
وفي المقابل هناك من يرى بأن مفهوم دولة القانون هو مفهوم غامض خاضع لكثير من الضبابية في دولة تطرح نفسها كدولة قانون، لأنه لو رفع هذا الشعار في دولة من الدول العريقة في الديمقراطية والتي قطعت شوطاً طويلاً في إرساء سيادة وحاكمية القانون لما اهتدى المواطن فيها إلى مفهوم أو مضمون معين، لأنه لا معنى في هذه الدولة إضافة القانون للدولة، أو إضافة الدولة للقانون فهما معاً متلازمان في كل مناحي الحياة، وليس كما هو الحال في بلداننا التي تتحدث باسم القانون، وتطرح نفسها بأنها دولة القانون، في الوقت الذي يتوه المواطن في البحث عن تطبيقات القانون، عن الفعل والممارسة فلا يجد، مما يشعرك أن شعار دولة القانون أصبح يطرح من باب التمنيات أو الطموحات، الأمر الذي يفرض جعل إصلاح وتطوير النظام القضائي في دائرة الاهتمام الجدي.
وإذا اعتبرنا أن المدونة التي وضعها المجلس الأعلى للقضاء وأعلن عنها نائب رئيس المجلس في ٦ يوليو من العام الماضي، والتي تناولت في أولها استقلال القضاء معنى ومؤدى، وحقوق الخصوم والمتقاضين ومنهاج القاضي والتزاماته، وزيادة إعداد القضاء، وإعداد المحاكم، وإنشاء محاكم جديدة، والأخبار والتصريحات التي توالت في شأن رفع جاهزية السلطة القضائية جهود طيبة مبذولة في هذا الاتجاه، إلا أن ملف تطوير النظام القضائي برمته لازال كما قلنا في السابق يتطلب جهداً استثنائياً يجعل هذا الملف في قمة الأولويات بما يضمن تطويراً حقيقياً وملموساً في النظام القضائي يسرّع من وتيرة تطبيق العدالة وتنفيذ الأحكام، لأنه لا قيمة للعدالة إن جاءت متأخرة أو عندما تكون العدالة البطيئة سيفاً يهدد مصالح وحقوق الناس، ولذلك لم يعد مقبولاً أن تستمر بعض القضايا في أورقة المحاكم والتنفيذ سنوات وسنوات.
نعود إلى الشق المتعلق بالقراءة غير الإيجابية لموضوع دولة القانون، فهناك من وجد بأن ثمة مبالغة في عرض هذا الموضوع، وإذا قبلنا ذلك فإننا حتماً لا نقبل ذلك التلميح بأن مثل هذا الطرح “قد يسيء إلى البلد”.
لاولئك لا نجد كلمة نقولها لهم سوى عودوا إلى ما قاله جلالة الملك، وللتذكير لعل ذلك ينفع، فإن جلالته قد أكد إيمانه بحرية التعبير، وبحرية الصحافة ودعا بأن تكون لديها الجرأة لطرح الحقائق وتسمية الأمور بمسمياتها، مبدياً قناعته بأن ذلك هو صمام الأمان الذي يصون المجتمع، هذا ما قاله الملك، وما قاله حفظه الله لا يجوز تجاهله.



صحيفة الايام
25 يوليو 2008