المنشور

كراهية الأجانب في‮ ‬جنوب أفريقيا

استيقظت جنوب أفريقيا قبل مدة على سلسلة من العنف وأعمال النهب في‮ ‬ضاحية الالكسندرا شمالي‮ ‬العاصمة جوهانسبرج ثم امتدت إلى وسط المدينة،‮ ‬بعدها زحف لهيب العنف المندفع نحو منطقة‮ ‬غوتنبنبج،‮ ‬وقد بدأ زعيق وهتافات الغاضبين من جنوب أفريقيا والمحملين بالسواطير وكل ما وقعت عليه أيديهم من الأسلحة الممكنة للعنف بما فيها أقدام الزرافات المقطوعة التي‮ ‬تحولت إلى آلات حادة،‮ ‬ذلك المشهد العنيف المندفع خلق هلعا حقيقيا في‮ ‬المدينة التي‮ ‬بدت وجها جاذبا للاستثمارات الأجنبية،‮ ‬فمن عنق تلك الأبنية الزجاجية المرتفعة في‮ ‬المدينة باتت الأسهم والاستثمارات لرجال الأعمال أكثر من مريحة،‮ ‬ولكن الشغب المستمر في‮ ‬السنوات الأخيرة جعل من الاستقرار والأمن حالة مشكوكاً‮ ‬في‮ ‬أمرها،‮ ‬فخلف تلك الأبنية الثرية والأنشطة الأجنبية للاقتصاد العالمي‮ ‬تعيش بعشرات الكيلومترات القريبة منها أكواخ الصفيح والبؤس وبؤر التوتر التي‮ ‬يفرزها الوضع الاجتماعي‮ ‬والاقتصادي‮ ‬السيء لسكان ومواطني‮ ‬جنوب أفريقيا،‮ ‬إذ عجز حزب المؤتمر منذ صعوده سدة السلطة من اجتثاث جذور الأزمات المستفحلة في‮ ‬البلاد كالبطالة والجريمة وأزمة السكن المتزايدة،‮ ‬فما على طابور الساخطين والمتذمرين إلا تفريغ‮ ‬همهم ومعاناتهم وظروفهم الصعبة في‮ ‬الظواهر الأقرب إليهم وفي‮ ‬كبش فداء من السهل الوصول إليه،‮ ‬في‮ ‬ظل شعور قومي‮ ‬ووطني‮ ‬محتقن ووعي‮ ‬اجتماعي‮ ‬بات محدودا وشوفينيا معاديا للأجانب،‮ ‬تضخمت ظاهرته في‮ ‬السنوات اللاحقة من سقوط نظام التفرقة العنصرية في‮ ‬جنوب أفريقيا‮.‬
‮ ‬إذ كثيرا ما رحب زعماء البلاد بالأجانب فيها،‮ ‬فكان من الطبيعي‮ ‬أن تندفع كل عناصر التراكم المحتملة للازمة،‮ ‬فليس الاستثمارات الأجنبية وحدها هي‮ ‬التي‮ ‬بحثت عن مناجم الذهب والألماس في‮ ‬تلك البلد الغنية،‮ ‬وإنما اندفع فقراء أفريقيا والبلدان المجاورة لها،‮ ‬إذ تطلع الملايين في‮ ‬القارة نحو بلد بدا لهم ثريا وجديدا بفرص العمل وحلما لبناء حياة جديدة فيها‮. ‬
دون شك أن مجتمع جنوب أفريقيا ورث قيم العنف،‮ ‬التي‮ ‬تركها فعل الممارسات العنصرية والاضطهاد فكانت ردود الفعل من القبائل والقوى السياسية عنيفة ومماثلة‮. ‬ومع سقوط النظام العنصري‮ ‬عام ‮٤٩٩١ ‬كان على الرجل العجوز ووجه جنوب أفريقيا الناصع نيلسون مانديلا والخارج لتوه من سجنه الطويل،‮ ‬أن‮ ‬يقدم لشعبه حلما واسعا وكبيرا بالحرية والعيش الكريم،‮ ‬ولكن مسيرة التغيير كانت طويلة وأدوات الثعبان الملتوية أصعب مما كان بإمكان الرجل العجوز من اجتثاثها،‮ ‬في‮ ‬ظروف عالمية جديدة‮. ‬ففي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬كان فيه النظام الاشتراكي‮ ‬ينهار برمته،‮ ‬كان في‮ ‬الجانب الآخر‮ ‬ينهار آخر نظام كولونيالي‮ ‬استيطاني‮ ‬عنصري‮ ‬في‮ ‬العالم،‮ ‬فبدت المعادلة لدى نيلسون مانديلا صعبة وكيفية مسالك الطرق الممكنة والاختيار في‮ ‬عالم بقطب واحد،‮ ‬وفي‮ ‬بلد تهيمن عليه أصابع الأخطبوط العالمي‮ ‬لشركات الذهب والألماس والمعادن ومصانع السلاح المتقدمة في‮ ‬جنوب أفريقيا‮. ‬
لم تكن عملية الموازنة الاجتماعية والاقتصادية سهلة لحزب المؤتمر الوطني،‮ ‬فمن جهة تتزايد حدة البطالة والتكاثر السكاني‮ ‬والجريمة،‮ ‬ومن جهة أخرى‮ ‬يتعمق التناقض الاجتماعي‮ ‬بين الثراء المستفحل والبؤس العميق،‮ ‬بين مدن مزدهرة‮ ‬غربية الطابع وأكواخ من الصفيح توقظنا على مشهد مدن العالم الثالث،‮ ‬حيث‮ ‬يختبئ هناك خزان الاندفاع والانفجاريات الاجتماعية‮. ‬وإذا ما تلاقت عوالم الجريمة بالبطالة والفقر وغياب الوعي‮ ‬من جهة فإن النهب والعنف رديفان لكل مسلسل العنف الاجتماعي،‮ ‬وقد‮ ‬يثير تساؤلات المراقبين وطوابير السياح في‮ ‬جوهانسبيرج وكيب تاون،‮ ‬ولكنه لن‮ ‬يثير استغراب من‮ ‬يرون أن ذلك نتائج طبيعية أن تحدث خلال كل عقد أو عقدين‮.‬
وفي‮ ‬أوضاع متأزمة من هذا النمط فإن خصوم حزب المؤتمر كالأحزاب القومية المحلية بات لديهم أسلحتهم التي‮ ‬يشحذونها في‮ ‬وجه الحزب الحاكم بتحويل‮ ‬غضب سكان جنوب أفريقيا في‮ ‬مهاجمة المهاجرين،‮ ‬فمن السهل تأجيج مواطنين عاطلين عن العمل ويعانون مشاكل اجتماعية قاسية بما فيها تناقص فرص العمل والسكن بسبب تلك الموجات المتواصلة من المهاجرين،‮ ‬والتي‮ ‬لا تتوقف عن جنوب أفريقيا،‮ ‬لكونها أكثر ثراء وازدهارا وسوقا مفتوحة وفرصا للعمل،‮ ‬ولكن موجة المهاجرين الأخيرة من العنف والقتل التي‮ ‬عرفها مواطنو زيمبابوي،‮ ‬الدولة المجاورة،‮ ‬إذ دفعت بالسكان فيها إلى الهروب نحو جنوب أفريقيا طلبا للحماية والاستقرار،‮ ‬ويقدر عددهم ما بين مليونين وثلاثة ملايين لاجئ،‮ ‬بالإضافة لتزايد حجم القادمين من الصومال وموزمبيق ونيجيريا ومالاوي‮ ‬وباكستان،‮ ‬كل هؤلاء بالضرورة خلقوا خللا في‮ ‬سوق العمل والسكن ونمط الحياة بما فيها ازدياد حجم الجرائم،‮ ‬غير أن ذلك لا‮ ‬يعفي‮ ‬الطرفين من الواقع المؤلم،‮ ‬الأول‮ ‬غياب دولة القانون وتصرف السكان الأصليين بروح العداء للأجانب،‮ ‬ومن الجهة الأخرى أن‮ ‬يتحول الأجانب إلى حالة من حالات التنافس في‮ ‬سوق العمل ما‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى هبوط في‮ ‬الأجور وتزايد في‮ ‬أسعار السكن وفرص العثور عليها‮. ‬
وإذا ما كانت حكومة جنوب أفريقيا هي‮ ‬الطرف المنظم للوضع المتوتر والمتأزم،‮ ‬فإن ذلك لا‮ ‬يلغي‮ ‬دور محاسبة الطرفين المعنيين بالأزمة وبأن معالجتها تتم عن طريق المؤسسات الشرعية وسيادة القانون‮. ‬ولكن‮ ‬يبدو أن الكيل طفح بسكان جنوب أفريقيا،‮ ‬فلم‮ ‬يجد الفقراء والعاطلون فيها فرقا بين التمييز بين حالة النهب والسلب والاحتجاج السياسي‮ ‬وبين أولئك المجرمين ذوي‮ ‬السوابق الذين‮ ‬يجدون في‮ ‬مناخ الاحتجاجات فرصة لمهاجمة محلات الأجانب وسرقتها ونهبها،‮ ‬بعد أن عملوا من اجل تلك الممتلكات سنوات طويلة،‮ ‬وصاروا ملاكا صغارا لبعض الحوانيت والبقالات والمخازن الصغيرة والتي‮ ‬تعيش في‮ ‬الضواحي‮ ‬الأقرب لمناطق الصفيح‮. ‬
كان بالفعل ذلك العنف مشوها لسمعة جنوب أفريقيا كما أشار كبار المسؤولين،‮ ‬فما كان منهم إلا الاعتذار،‮ ‬لبلد‮ ‬ينتظر كأس العالم عام ‮٠١٠٢ ‬ويسعى لتحسين وضعه السياحي‮ ‬عالميا‮. ‬ولكن الأهم،‮ ‬هو إن حزن نيلسون مانديلا كان عميقا بصدد ذلك الاعتداء على المهاجرين حين ناشد أن لا تنجر البلاد إلى‮ »‬التفرقة المدمرة‮«‬،‮ ‬وكأنما صوت‮ ‬غاندي‮ ‬القديم‮ ‬ينهض من تراب جنوب أفريقيا إذ لا‮ ‬يمكن محاربة العنصرية بالعنصرية‮!  ‬

صحيفة الايام
20 يوليو 2008