المنشور

الإدارة الأمريكية في‮ ‬الأمتار الأخيرة سباق لحسم ملفات بحماس متقطع


تبدو إدارة الرئيس بوش هذه الأيام في عجلة من أمرها لحسم بعض القضايا والملفات الدولية العالقة قبل انتهاء ولايتها نظرياً في نوفمبر المقبل وعملياً في يناير .2009
فهي تسابق الزمن من أجل تجميع حصيلة جيدة من النقاط التي تروم ‘إهداءها’ إلى حزبها الجمهوري الحاكم كي يتمكن الأخير من استخدامها كأوراق مرجحة في الانتخابات الرئاسية المقبلة علها تسعف المرشح الجمهوري جون ماكين في الفوز بها، والجمهوريين عموماً في الاحتفاظ بمنصب الرئاسة لأربع سنوات أخرى.
فوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس لا تكاد تنهي زيارة للمنطقة حتى تعود إليها لدفع مفاوضات التسوية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية من أجل إقامة الدولة الفلسطينية التي وعد الرئيس بوش بتحقيقها قبل نهاية العام الجاري.
وفي القضية المتعلقة بوضع اتفاق إنهاء البرنامج النووي لكوريا الشمالية الذي توصلت إليه واشنطن مع كل من كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والصين وروسيا واليابان، فإن الإدارة الأمريكية تسرع الخطى للانتهاء من تدابير تطبيق كل بنود الاتفاق بما في ذلك التطبيقات المتعلقة بواشنطن ومنها تقديم المساعدة الاقتصادية (الغذائية والهيدروكربونية) والفنية المتعلقة بتشغيل مفاعلاتها بالماء الخفيف عوضاً عن الماء الثقيل، وإزالة اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وفي القضية المتعلقة بما تسميه واشنطن ‘الحرب على الإرهاب’، أصدر الرئيس بوش تعليماته للوحدات الخاصة بالعمليات السرية خارج الحدود، الإسراع في اعتقال أو تصفية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن قبل انتهاء ولايته.
إلا أن الملف الأبرز الذي تركز عليه إدارة الرئيس بوش بصورة أكبر وتعمل بشتى السبل السياسية والدبلوماسية والعسكرية من أجل تسريع عملية توضيبه والانتهاء منه في الموعد المضروب (قبل انتهاء الولاية)، هو ملف الوجود العسكري الأمريكي في العراق، إذ تنهمك مؤسسات النظام الأمريكي بمستوياتها المختلفة، السياسية (البيت الأبيض ووزارة الخارجية) والعسكرية (البنتاغون) والتشريعية (الكونغرس بمجلسيه) في وضع اللمسات الأخيرة على مخطط تقنين التواجد العسكري الأمريكي طويل الأمد في العراق.
وباستعراض سريع لمعطيات القضايا سالفة الذكر، محل تركيز اهتمام الإدارة الأمريكية في الزمن المتبقي لها، يستطيع المتابع أن يقرر بكل اطمئنان ضمان الفشل في القضية الأولى. وذلك برسم التحرك المنفرد وغير المدعوم للوزيرة رايس، ناهيك عن أن وزيرة الخارجية نفسها لا تبدو جادة في مساعيها إلى تذليل العقبات الإسرائيلية المانعة لقيام الدولة الفلسطينية الموعودة. فمقدمات قيام الدولة التي تعمل الوزيرة رايس عليها، ولا تتجاوز فتح بضعة معابر هنا وهنـاك لتسهيل حركة تنقل الفلسطينيين داخل معسكر اعتقالهم الكبير الذي يراد له أن يتحول ‘بفضـل’ البراغماتية السياسية الأمريكية إلى دولة أو شبه دولة، هذه المقدمات/التسهيلات المضحكة لا تبعث على الاعتقاد بأن ثمة جدية لدى الجانب الأمريكي (وليس لدى رايس وحدها) في تحقيق ‘وعد’ الرئيس بوش.
وفي ملف زعيم تنظيم القاعدة، فإن تقارير صحفية أمريكية وبريطانية كشفت عن خلافات داخل الأجهزة الأمنية الأمريكية بشأن طريقة التعامل مع الفارين من قيادات القاعدة إلى مناطق الحدود الباكستانية القبلية، بما يدلل على عدم تعجل الطبقة السياسية الحاكمة حالياً في الإطباق على قيادة التنظيم كي لا تتسبب، بيديها، في إبطال حجة ما سمته الحرب الممتدة على الإرهاب لثلاثين عاماً، مفترضة في ذلك، بطبيعة الحال، احتفاظها بمنصب الرئاسة في انتخابات نوفمبر المقبل من خلال فوز مرشحها جون ماكين.
وفي الملف النووي الكوري الشمالي فإن وتيرة التقدم على صعيد هذا الملف لا تقررها بالمطلق الرغبة والمشيئة الأمريكية وإنما الطرفان الأساسيان معاً، وكوريا غير متعجلة في التخلص فوراً ونهائياً من برنامجها النووي ذي الطبيعة العسكرية، وإنما هي تتقدم على ما هو ظاهر بمقدار ما ستحصله من تنازلات من الجانب الأمريكي وفقاً للاتفاق السداسي المبرم (الولايات  المتحدة، اليابان، كوريا الجنوبية، كوريا الشمالية، الصين، روسيا).
أما ملف طبيعة ومصير الوجود العسكري الأمريكي في العراق، فلعله الملف الأكثر استحواذاً للجهد والاهتمام في المؤسسة الأمريكية الحاكمة، وهذا أمر مفهوم، فالإدارة الحالية تريد حسم الموضوع بطريقتها وبما يوافق تصوراتها الإيديولوجية الكونية ويوافق مصالح القوى الاجتماعية التي تعبر عن مصالحها، لاسيما رموزها المتمثلة في لوبيات النفط ومصادر الطاقة الأخرى، وأعمال المقاولات والإنشاء والتعمير. فهي في الأخير منهم (من نسيجهم) وإليهم، بما يشمل ذلك ويتصدره الرئيس نفسه وعائلته، ونائب الرئيس ووزيرة الخارجية.
ووفقاً للمتوافر من معلومات فإن إدارة الرئيس بوش عبأت طاقات سياسية ومالية وعسكرية ووظفتها ‘بفعالية شديدة’ في ‘معركة’ الفوز بعقد التواجد العسكري طويل الأمد في العراق. ويقال إن هناك أموالاً جاهزة للتمرير والدفع لأعضاء البرلمان العراقي (المستعدين للقبض) لتمرير الاتفاق والموافقة عليه حال عرضه من قبل الحكومة العراقية على البرلمان العراقي للمصادقة عليه.
هذا هو، على أية حال، المتوقع من الدول العظمى في ما يتصل بطريقة تعاطيها مع الشؤون الدولية التي تشكل -من وجهة نظرها- امتداداً لفضاء مصالحها الحيوية، إذ يتصف فعلها في هذا المجال ‘الحيوي’ بالدينامية والتخطيط اللذين قلما يتركان فسحة للمصادفة. فما بالك بالدولة العظمى الأولى في العالم التي تمتلك خزيناً وفيراً من الإمكانات والاستعدادات للتعامل مع تطورات الأحداث الجارية على الساحة العالمية وجدولة وإعادة جدولة أولوياتها وفقاً لمقتضيات الساعة والظروف المحيطة.
الغريب أن اثنتين من القضايا الأمريكية سالفة الذكر والمعطاة صفة الاستعجال من جانب الإدارة الأمريكية، تتعلقان بنا مباشرة كعرب وتمس في الصميم مصالحنا العليا والقطرية الأدنى، بما تنطوي عليه وما سترتبه من إفرازات ظرفية وواقعية جديدة. ومع ذلك لا نكاد نلحظ أية حركة موازية من الجانب العربي، فاعلة وحاضرة في ما يتم تحضيره وتهيئته، قبل إخراجه، من ‘ترتيبات’ جيوسياسية رئيسة. فلم نسمع مثلاً أن أعضاء المنظومة العربية الرسمية طالبوا الحكومة العراقية بالتشاور والتنسيق مع الجانب العربي في ما يتعلق بمحادثاتها السرية مع المحتل الأمريكي لإبرام اتفاق تقنين الوجود العسكري الأمريكي في العراق بما يفاقم الضغوطات السياسية التي تمارسها واشنطن على النظام الرسمي العربي، وذلك مقابل طلبات وإلحاحات الحكومة العراقية على أعضاء الأسرة العربية لإعادة فتح سفاراتها في بغداد.
ولم نر تحركاً عربياً جدياً لإنهاء القطعية الفلسطينية الفلسطينية تحصيناً وتدعيماً للموقف الفلسطيني في المفاوضات، السرية أيضاً، الجارية بين وفد السلطة في الضفة وحكومة أولمرت برعاية وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس
 
 
الوطن 19 يوليو 2008