المنشور

الملاءات البيضاء


كل ما في المستشفى أبيض. لون الجدران والسقف والمعاطف التي يخلعها الأطباء على أنفسهم، وبدلات الممرضين والممرضات ولون أحذيتهن، وما يضعن فوق رؤوسهن. حتى الحجاب الذي يغطي رؤوس المحجبات منهن أبيض. أبيض أيضاً لون السرير والملاءات والأغطية والوسائد. بياض هنا، لا لون سوى البياض. والأبيض لون جميل، لكن جماله ناجم عن تناغمه مع ألوان أخرى. بياض فستان العروس يضيء فقط مع اللون الغامق لبذلة العريس، لكن حين يُصبح الأبيض لوناً واحداً، فانه يُشيع حالةً من الرتابة والتكرار، ولن تستطيع أن تفلت من التفكير أن الحياة خارج غرفة المستشفى مليئة بالألوان، متعددة الألوان.
 ما أكثر ما يمرض الواحد منا، فأجسادنا أكثر هشاشة مما نتصور، وهي قد تُعاقبنا على إهمالنا لها بأن تكف عن أداء وظائفها بالصورة المنشودة. وبعد أكثر من تجربة مع المرض بوسعي القول إن الألم لا يُوصف ، إنما يُعاش.  مهما قال لك أحدهم إنه يتألم ومهما بدوتَ متفهماً لما يقول، فلن تدرك أبداً ما الذي يعنيه إن لم تكن قد عانيت ألماً مشابهاً.
 غرفة المريض محدودة التفاصيل: سرير ضيق بالكاد يتسع لحركتك المحدودة وبضعة كراس وخزانة صغيرة في الجدار وتلفزيون لعلك لا تجد في برامجه ما يسليك. نافذتان واسعتان بما فيه الكفاية لكنهما تطلان على جزء آخر من مبنى المستشفى لا على فضاء ولا على سماء. إن رفعت الستارة نهاراً فبوسعك رؤية مساحة صغيرة من زرقة السماء.
في مزاج عليل يمكن حفظ هذه التفاصيل بسرعة، فهي تبدو ساكنة وفقيرة. لكن التجربة المثيرة وسط هذا كله هي تلك الأنابيب المتدلاة من قوارير مليئة بالأملاح على شكل سوائل تتسرب إلى جسمك عبر الأوردة من خلال إبرة غُرزت في ظاهر الكف. هنا ما يمكن مراقبته، ففي هدوء الليل وتحت ضوءٍ خافت ووسط السكون الذي يشيع في الغرفة بعد أن ينصرف الزوار وتهدأ جلبة الممر، يُصبح التأمل في قطرات السائل تهبط واحدةً واحدة بانتظام وبإيقاع زمني محسوب، نوعاً من التسلية.
 لا أعرف لماذا تحضر ساعتها ذكرى شتاء دمشقي بعيد في شقةٍ في منطقة باب توما في الشام. في الخارج صقيع ونحن في تك الشقة حول دفء المدفأة نتحلق. تماوجات شعلة النار داخلها بألوانها المتداخلة تبعث على دفء في النفس مذكرةً بالشرح البديع لغاستون باشلار وهو يصف النار في ” شعلة قنديل “.
 يمكن للنار أن تزداد أواراً لو أنك سرّعت من تدفق قطرات المازوت التي تُغذيها والتي تهبط بإيقاع زمني محسوب كما تنزل أمامك الآن قطرات سوائل الأملاح من القارورة الموصولة بإبرة إلى أوردة اليد. الممرضة هنا تفعل شيئاً مشابهاً حين تريد زيادة تدفق تلك القطرات عبر بكرة صغيرة مثبتة في وسط الأنبوب.  وسط مزاج المرض بدت ذكرى تلك المدفأة باعثةً على شعورٍ بالطمأنينة والدفء والرضا.
 كتبت مراراً عن السعادة، ومن التجربة أعرف أن الناس شغوفون بهذا الموضوع، فهم يريدون معرفة كُنه هذه السعادة، وفي لحظات الوجع الناجم أدركت بيقين لا يرقى إليه شك أن أبسط وأدق تعريف للسعادة هو ذاك الذي يقرنها بالصحة، فبدونها لا قيمة لشيء في هذه الحياة ولا طعم ولا لون.


وسلامتكم بالدنيا


الأيام 12 يوليو 2008