المنشور

جديد صدمة النفط الثالثة

 
إشارة جديدة وجدية أخرى أرسلها سوق النفط يوم الخميس الماضي إذ سجل رقماً قياسياً تاريخياً جديداً: 145.29دولارا للبرميل (د/ب). ومع أنه في العام الماضي فقط كان يصعب تصور مثل هذا السعر، إلا أن الوضع يكشف عن مفارقتين تستحقان التمعن: الأولى، أن سعر النفط في يونيو/ حزيران من العام الماضي كان قد بلغ 70 د/ب فقط، وقد اعتبر ذلك عاليا جدا[1]. الثانية، أن سعر 130 د/ب حاليا يعادل، وفق حسابات بعض الدول الأعضاء في أوبك، ما بين 70 – 80 دولاراً في العام الماضي فقط بسبب انخفاض سعر صرف الدولار المستمر[2]. وفي بداية هذا الأسبوع قدم مدير وكالة الطاقة الدولية نوبوا تاناكا، في خطابه أمام مؤتمر الطاقة الدولي في مدريد اقتراحا سحر الجميع: يمكن على وجه الدقة القول بأن العالم اليوم يعيش حالة ‘صدمة النفط الثالثة‘.
ولعل رئيس أوبك شكيب خليل، أكمل فكرة الأول عندما توقع بأن سعر برميل النفط سيضرب رقم 170 دولارا في صيف هذا العام. ورغم المفارقات إلا أن هذه الأحاديث الدرامية تنبئ بأن التزايد المتسارع في أسعار النفط يعني بأن أسعار النفط الرخيصة قد ولت إلى أمد غير منظور، كما أنها تؤشر إلى حقبة جديدة، ربما أعمق أساسا من صدمتي النفط في سنوات السبعينات.
صدمتا النفط في السبعينات تعود إلى أسباب سياسية. الأولى بعد حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 واستخدام الدول العربية والأخرى المنتجة للنفط إياه كسلاح للضغط على الغرب. حينها قفز السعر في أيام فقط من 3 إلى 5 د/ب ، وإلى 12 د/ب في السنة التالية. الصدمة الثانية جاءت بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. في 22 سبتمبر/ أيلول 1980 قام دكتاتور العراق مدفوعاً من حلفائه الغربيين آنذاك بمهاجمة إيران التي لان عودها. أدى ذلك إلى انخفاض الإنتاج، فقلل العرض الأمر الذي صعد السعر إلى 38 د/ب.
صدمة النفط الثالثة’ تختلف جذريا إذ إنها ذات طبيعة اقتصادية وليست سياسية. ولم يعد من اللائق اتهام دول أوبك بأن سياستها الإنتاجية هي السبب ولا من العدل إجبارها على هذه الزيادة. لقد أشارت وكالة Bloomberg إلى أن أوبك زادت إنتاجها من النفط بنسبة 1% في شهر يونيو/ حزيران.
 الإنتاج السعودي ارتفع الشهر الماضي بمقدار 280 ألف ب/ي ليبلغ 9.53  مليون ب/ي مسجلا أعلى قدر منذ مارس/ آذار 2006. وتبلغ حصة السعودية 88% من قدر الزيادة التي حققتها بلدان أوبك في يونيو/ حزيران الماضي.
 
إنتاج دول أوبك، فيما عدا العراق، ارتفع بمقدار 380 ألف ب/ي ليصل إلى 3.09 مليون ب/ي. أما الإنتاج العراقي فقد انخفض بمقدار 60 ألف ب/ي ليصل 2.34 مليون ب/ي في يونيو/ حزيران بعد أن سجل مستوى قياسياً في مايو/ أيار الماضي.
إيران، وهي ثاني أكبر منتج في أوبك تنتج حالياً، حسبما أعلنه وزير النفط الإيراني في مؤتمر مدريد، 4.35 مليون ب/ي وتخطط لزيادتها إلى 5.3 مليون ب/ي حتى العام 2014 أما انخفاض إنتاج نيجيريا الشهر الماضي بمقدار 20 ألف ب/ي فقد عوضه ارتفاع إنتاج فنزويلا بالقدر نفسه (20 ألف ب/ي). ومع ذلك فإذا كان سعر النفط قد ارتفع بنسبة 9.6% في يونيو/ حزيران فإنه الخميس الماضي سجل ذلك الرقم القياسي التاريخي الجديد.
يكمن السبب في صدمة النفط الثالثة في طبيعة المتغيرات الاقتصادية الدولية وفي احتلال عدد من الدول النامية مكانها الجديد والمتقدم في التقسيم الدولي للعمل. فمع أن معطيات وكالة الطاقة الدولية تشير إلى أن الدول الصناعية المتقدمة تمر بفترة تراجع في الطلب على النفط بمقدار 0.1%، لكن ذلك على أية حال لا يقارن بارتفاع الطلب من قبل الصين والهند. الدول النامية تنمو بوتيرة متسارعة جداً. وهي لحد الآن تبدو قادرة على استيعاب موجات ارتفاع أسعار النفط المتعاظمة. وحسب وكالة الطاقة الدولية سينمو هذا الطلب بنسبة 3.7% رغم صدمة النفط. وهذا فارق جوهري وحاسم عما كان عليه الوضع في السبعينات.
العامل الثاني في ارتفاع أسعار النفط وفي عدم قدرة البلدين الرئيسين في أوبك على تلبية تزايد الطلب هو أن التوسع ممكن أساساً في إنتاج النفط ذي المحتوى العالي من الكبريت (الثقيل) الذي لا يجد طلبا في السوق، بينما أهملت الدول المستهلكة لسنوات طوال الاستثمار الفعال في الاستكشافات النفطية الجديدة وفي بناء مصانع التكرير الإضافية. ولهذه الأسباب اضطرت إيران مثلا إلى إعادة حقن ما يعادل 70 ألف برميل من إنتاجها اليومي في شهر مايو/ أيار الماضي إلى المخزون لكونه من النفط الثقيل.
العامل الثالث الذي لا يقل أهمية عن سابقيه هو الأزمة الاقتصادية – المالية الأميركية. فهي بشكل مستمر تضعف الدولار الذي يشكل الآن الوحدة الحسابية لغالبية معاملات النفط الدولية. ويربط الخبراء بضعف الدولار 25% من مقدار الارتفاع في أسعار النفط عملياً. لقد عمد المصرف المركزي الأوربي الخميس الماضي إلى رفع سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية ليصبح 4.25% توقعا من خبراء المصرف بأن النقابات، وخصوصا الألمانية، ستبدأ العمل من أجل تعويض الأسعار العالية على مواد الطاقة بالمطالبة برفع الأجور، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى حلزون ‘الأجور – الأسعار’، كما حدث في السبعينات. ويريد المصرف أن يستعد للحدث قبل وقوعه فيمتص من السوق جزءاً كبيراً من السيولة تفادياً لزيادة معدلات التضخم المرتفعة أصلا بضعف الحد المرسوم بـ 2% فقط[3]. لكن هذا الإجراء الأوربي يعزز من دور العامل الثالث في ارتفاع أسعار النفط. بل أن الارتفاع الأخير حدث قبيل إعلان المصرف المركزي الأوربي إدراكاً من السوق أن ذلك سيؤدي تلقائياً إلى انخفاض جديد في سعر صرف الدولار الأميركي، وبالتالي إلى انخفاض دخل البلدان المصدرة للنفط.
وهكذا فأسعار النفط في ارتفاع مطرد. لكن آثارها السلبية أصبحت محسوسة على الدول الخليجية أكثر مما على الاقتصاد العالمي بسبب عدم الاستعداد لهذه الحقبة.. كالعادة. 

 
المصادر
 
[1]      جريدة “زيوديتشه تشايتونغ” البافارية الألمانية، 04.07.2008،  http://www.sueddeutsche.de
2    ”روسيسكايا غازييتا” الروسية، 04.07.2008 
3     بالمناسبة نشير إلى أن دولنا الخليجية تفعل العكس تمام. إذ أن زيادات الأجور الأخيرة جاءت متوازية وزيادة هائلة في الإنفاق   الحكومي وفي خفض نسبة الفائدة تبعا للسياسة النقدية الأميركية.
 
 
 

 
الوقت 7 يوليو 2008