المنشور

ليس احتقاناً‮ ‬طائفياً‮ ‬شعبياً


 
حظي موضوع الخلاف بين نفر من مشايخ الدين السنة والشيعة في البحرين باهتمام الأوساط السياسية والوسائط الإعلامية في المنطقة وخارجها.
فقد تناولته في موضوع التنازع الطائفي بعض الفضائيات العربية والعالمية. كما تناولته بعض الصحف العربية.
وكما هو العهد بها دائماً، اهتمت جريدة الخليج الإماراتية بالموضوع وتناولته في إحدى افتتاحياتها (السبت 21 يونيو 2008) انطلاقاً من حرصها في الحفاظ على استقرار البحرين وصيانة وحدتها الوطنية، وللالتزام الثابت والمبدئي ‘للخليج’ في الانحياز للمصالح الوطنية والقومية العربية.
وهذا بلا شك أمر له دلالته وأهميته بالنسبة لممارسة ضغط معنوي وأخلاقي على تلك الأطراف المتورطة في أعمال الشحن والتنابذ اللفظي الطائفي المغرد خارج السرب الوطني البحريني العريق، والمستهجن شعبياً ونخبوياً بأشد عبارات الاستنكار والاستهجان.
ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن كل المتورطين والمتسببين بحذلقاتهم الجاهلة في إثارة هذا الغبار الكريه، يفتقدون حس الاتصال بالمزاج العام للشعب البحريني الذي بدا وكأنه غير معني وغير مهتم بالمشاحنات الطائفية التي اختص بها أولئك المتشنجون وجهدوا أنفسهم طوال الفترة التي تلت المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، فأساؤوا توظيف أدواته وأجواء التعبير الرحبة التي أشاعها، من أجل إنشاء بورصة رائجة لتسويق ‘بضاعتهم’ بعد تهيئة الأجواء المناسبة لها، وذلك في إطار تنافس صريح وعجيب على فرض ونشر وتثبيت رموز الدولة الدينية التي ينشدها طرفا الصراع، في مقابل تضييق الخناق على الدولة المدنية والمجتمع الحضري والمدني الذي شيدته سواعد البحرينيين كافة منذ ما قبل الاستقلال.
حتى بدا جلياً أن تلك القوى التي لا تجـد نفسها وتحقق ذاتها (Self actualisation) إلا من خلال الهبوب فزعة للطائفة التي لم تنتدبها أو تفوضها التحدث نيابة عنها، تريد أن تفبرك معطيات توحي بوجود حالة احتقان وصراع طائفي، وذلك في استعارة متبادلة، وبائسة، لحالات مشابهة في غير ساحة عربية، وفي مسعى حثيث لإلحاق البحرين وتوريطها في المخطط الإقليمي التفتيتي، المندرج في إطار إبقاء الأمة العربية ومجتمعاتها مكبلة ومنشغلة باستمرار بمشكلاتها وخلافاتها الداخلية.
بينما الحقيقة ليست كذلك، نعم هناك احتقان يخبو ويطفو مداً وجزراً، بل يتصاعد أحياناً إلى الذروة متجسداً في تراشقات كلامية ومظاهر استعراض وتحشيدات تحريضية. ولكنه ليس احتقاناً طائفياً شعبياً، وإنما هو احتقان سياسي.. أي بين زعامات دينية ذات خلفيات سياسية فاقعة.
ولذلك فإن غالبية أهل البحرين، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية، تبدو غير مكترثة بهذه الزوبعات المتقافزة، الإيديولوجية في العمق والمذهبية في الظاهر، لأن هذه الغالبية لا تجد ببساطة لها أية مصلحة أو إغراء للالتحاق بذلك الخطاب المنفر والمؤذي لمشاعرها ومزاجها البحريني الفطري الوطني الذي لم تلوثه يوماً تلك المساجلات القروسطية.
وقد عُرف البحرينيون على مر التاريخ الحديث بحسهم الوطني العالي، وبوقوفهم في طليعة المد العروبي وارتباطهم بعمقهم القومي العربي، لا تعرف النزعات الجهوية والفئوية والطائفية إلى نفوسهم سبيلاً، فإنهم متحصنون في ذلك بإرثهم الحضاري النيِّر وشمائل شخصيتهم المتسامحة والمنفتحة على الآخر بكل ما يمثله من خلفيات ثقافية ومناقبية، ما جعلها دوماً عصية على الاختراق من جانب قوى التجهيل والغوغاء.
وإلى ذلك، فإننا لو ألقينا نظرة متفحصة على مصادر تلك الإثارات ذات النفحات الطائفية والجهوية، فسنجد أن مصدرها هو تلك الجمعيات (الأحزاب) والكيانات الدينية التي أطلت برأسها بعد المشروع الوطني للإصلاح، إذ دأبت على ترديد خطابات والإتيان بممارسات تختزل الوطن في الفرعيات الجهوية المستحضرة من زمن الجاهلية الأولى ومن قيعان تاريخ قديم غير ذي صلة بالحاضر المعاش والمستقبل الذي سيظل مجهولاً بالنسبة لمجتمعات لا تريد مغادرة أمكنتها التي غادرها الزمن نفسه منذ أمد بعيد.
وما من شك في أن مجريات الأحداث على الساحة العربية وتداعيات المنهج التجريبي البراغماتي متمثلاً في تطبيقات استراتيجية ‘الفوضى الخلاقة’ لصاحبتها الحصرية الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما تطبيقاتها المريعة والمدمرة في العراق ولبنان، لها انعكاساتها السلبية على الأوضاع العامة في معظم الساحات العربية للأسف الشديد. إذ كان هناك على الدوام قوى سياسية بلبوس ديني أو عرقي، قابلة للاستدراج إلى الأفخاخ المنصوبة، بوعي أو من دون وعي.
وهذه على أية حال إحدى المصائب التي نكبنا بها منذ ما قبل الاستقلالات الوطنية لبلداننا وما بعدها. في هذه الإشكالية تحديداً، كانت القوى الوطنية والديمقراطية العربية، ومازالت، تشكل الضمانة والستار الواقي الحائل دون تمكن محاولات التسلل للكتلة المجتمعية العربية المندمجة والمؤتلفة، من تحقيق مراميها الخبيثة، على رغم الحصارات والضغوطات والتحديات التي تواجهها من أطراف العملية التنموية وإداراتها الكلية والجزئية.
ومن الطبيعي، والحال هذه، أن تفرز القوى الديمقراطية والليبرالية البحرينية بكل أطيافها، نفسها كقوى مناهضة، خطاباً وممارسة، للعصبيات بجميع أشكالها الطائفية والمذهبية والعرقية، ولكل محاولات إضفائها على حركة الصراع التاريخية بين القديم والجديد، بغية جرف المجتمع والدولة عن مسارهما التنموي الطبيعي والأصيل.
ولذا يبقى الرهان في الحفاظ على اللحمة الوطنية الشعبية، معلقاً على كل أطياف التيار الليبرالي الواسع وامتداداته التنويرية الحية التي ما بخلت يوماً في تقديم العون والمدد للوطن ليكون على الصورة الحداثية التي هو عليها اليوم
 
الوطن 5 يوليو 2008