المنشور

“‬الزحف الكبير” ‬و”العشاء الأخير‮ !”‬

تذكرنا كلمة الزحف الكبير بالزحف الأخضر‮ ‬،‮ ‬والأحمر والمسيرة الكبرى الصينية بقيادة ماوتسي‮ ‬تونغ‮ ‬،‮ ‬وكل أنواع الزواحف الثعبانية والعسكرية على كل الجبهات‮ ‬،‮ ‬مثيرة تلك العملية الزاحفة رعب الخصم ومثيرة عاطفة الشارع‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬كلما تدحرجت تلك الحركة الشعبية الزاحفة للأمام انضم إليها العديد من الناس والفئات المختلفة التي‮ ‬ترى في‮ ‬تلك العملية بشعاراتها‮ ‬،،‮ ‬الجاذبة‮ ‬،،‮ ‬وقوتها السحرية‮ ‬،‮ ‬حتى بدت تلك العملية الممتدة بالعشرات ككرة الثلج بديلها التاريخي،‮ ‬فكلما تدحرجت مدة أطول صارت أثقل واكبر مما‮ ‬يصعب تفتيتها‮ .‬
‮ ‬هكذا تحركت الياقات السوداء أولا كتعبير عن فئة المحامين والقضاة الذين عبروا ويعبرون عن عدالة قضيتهم ومهنتهم‮ ‬،‮ ‬احتراما لسيادة القانون وسيادة سلطة فوق النظام السياسي‮ ‬،‮ ‬عندما تجد نفسها في‮ ‬مواجهة تنفيذ القانون والدستور بصورة عادلة‮. ‬
هذه الشريحة وجدت ضميرها مستيقظا من أعلى درجة في‮ ‬السلك حتى الموظفين الصغار‮ – ‬إلا قلة قليلة كالعادة‮ – ‬باعت ضميرها للمصالح وتحولت إلى زمرة السلطة بينما هؤلاء التكنوقراط بفئاتهم العليا والدنيا وجدوا إنه لا‮ ‬يمكن التسليم لنظام‮ ‬ينوي‮ ‬تحويلهم وتحويل مهنتهم ومن ثمة بلادهم إلى مزاد الفساد‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬سوق باكستانية تسود فيها كل‮ ‬يوم مشاكل مستفحلة لا‮ ‬يمكن أن تحل بترقيعات ووعود‮ ‬يحدد ملامحها وطبيعتها النظام الفاسد‮ ‬،‮ ‬بمؤسسة محمية بقوات الأمن والمؤسسة العسكرية‮ . ‬لقد تحول كبير القضاة‮ ‬،‮ ‬والذي‮ ‬أمضى شهوراً‮ ‬في‮ ‬السجن نتيجة لمواقفه واختلافه مع الرئيس والجنرال مشرف‮ ‬،‮ ‬فكان مصيره القضبان‮ ‬،‮ ‬هذا القاضي‮ ‬بات إيقونة كبيرة بعد أن ظل مجرد كبير قضاة في‮ ‬بلد‮ ‬يعج بالمشاكل المختلفة بما فيها سلك القضاة‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬مواجهة جنرال لا‮ ‬يقبل بالنقد‮ ‬،‮ ‬فتحركت قافلة السيارات من لاهور إلى البرلمان في‮ ‬إسلام آباد وهي‮ ‬تستجمع قواها خلال خمسة عشر شهرا فجذبت خلفها كل‮ ‬يوم المزيد من المؤيدين‮ ‬،‮ ‬مستلهمة التجربة الغاندية في‮ ‬الاحتجاج المدني‮ ‬من اجل انتزاع حقوقها الشرعية من نظام عسكري‮ ‬متغطرس‮ ‬،‮ ‬غير أن الحركة اليومية الاحتجاجية نمت من تلقاء نفسها حتى وجدت أن شعاراتها كبرت وتداخلت في‮ ‬مطالبها‮ ‬،‮ ‬من تحقيق المطالب في‮ ‬تنظيف سلك القضاء وتحويله إلى مؤسسة مستقلة نزيهة وإعادة المفصولين من القضاة‮ ‬،‮ ‬إلى مطلب أوسع هو مغادرة الرئيس نفسه من سدة الحكم‮ ‬،‮ ‬حيث وجدت الحركة السياسية الباكستانية بكافة أحزابها‮ ‬،‮ ‬أنها تلتقي‮ ‬في‮ ‬النهاية مع طبيعة هذه القوة المدنية الانقلابية والاجتماعية الكبيرة‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬ضمت في‮ ‬صفوفها كافة الرموز العسكرية والمتقاعدين منها‮ ‬،‮ ‬بل ووجدنا الجديد فيها هي‮ ‬تلك الأعلام الحمراء إلى جانب الأعلام الخضراء والسوداء‮ ‬،‮ ‬إذ نزع الشيوعيون الباكستانيون عن وجههم قناع السرية ورفعوا أعلامهم‮ – ‬بمطرقتهم ومنجلهم القديم‮ – ‬هذا الحراك الضخم الذي‮ ‬جعل من الحركة الشعبية الباكستانية بكل تياراتها المترددة والمتحمسة‮ .‬
‮ ‬تلتقي‮ ‬في‮ ‬طوفان ذلك النهر الجماهيري‮ ‬الغاضب‮ ‬،‮ ‬ففي‮ ‬البداية كان حزب الشعب لديه رؤيته في‮ ‬مسألة تسوية بقاء مشرف ومحاكمته وعودة القضاء كجزء من حزمة دستورية أو التحالف معه حتى إشعار آخر على أساس إن الظروف لم تنضج بعد‮ ‬،‮ ‬فيما وجد حليفه نواز شريف إن نقطة الارتكاز حول كل تحالف استراتيجي‮ ‬وليس انتخابي‮ ‬هو رحيل الرئيس مشرف‮ ‬،‮ ‬فخلف كل علل الوضع والنظام‮ ‬يكمن بقاء الرئيس ونظامه‮ ‬،‮ ‬ومن الضروري‮ ‬نزعه من السلطة وتقديمه لمحاكمة عادلة‮ .‬
‮ ‬لهذا رأى حزب الشعب نفسه أمام خيارين إما الانضمام لحركة شعبية مستنفرة وفي‮ ‬حالة نهوض أو البقاء مع مشرف في‮ ‬حكومة ائتلافية‮ . ‬وفي‮ ‬كلا الموقفين سيخسر شعبيته‮ ‬،‮ ‬مما جعل اصف زارداري‮ ‬وقيادته التحرك بسرعة في‮ ‬التخلي‮ ‬عن مشرف والانضمام إلى الزحف الكبير‮ ‬،‮ ‬والذي‮ ‬سيكون ضيفا على مائدة زارداري‮ ‬في‮ ‬إسلام آباد‮ ‬،‮ ‬تأكيدا للحوار واللقاء السياسي‮ ‬الجديد مع الكتل والأطياف المتنوعة في‮ ‬تلك الجبهة الشعبية الجديدة‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬صنعتها لحظة تاريخية‮ ‬،‮ ‬اقتضتها المرحلة الباكستانية الصعبة داخليا وخارجيا‮ . ‬وبهذا التخلي‮ ‬من جانب زارداري‮ ‬للرئيس مشرف‮ ‬يكون وضع النظام صعبا وهشا‮ ‬،‮ ‬إذ‮ ‬يبقى في‮ ‬جبهة مشرف وسدنته المؤسسة العسكرية والأمنية والبطانة‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬تم تشكيلها وتشكّلها طوال حقبة استلامه للسلطة‮ . ‬غير أن المؤسسة العسكرية الباكستانية هي‮ ‬من أكثر المؤسسات هشاشة وعرضه للتفكك كنموذج في‮ ‬العالم الثالث‮ ‬،‮ ‬إذ مع استقالة كل مرتبة عسكرية كبيرة أو تقاعدها نجدها لا توافق على كل سلوكيات القادة‮ ‬،‮ ‬الذين‮ ‬يستلمون السلطة ويحّولون المجتمع المدني‮ ‬لحالة طوارئ‮ ‬،‮ ‬ويعسكرون المؤسسات فيفقدون احترام الجميع‮ ‬،‮ ‬بل وتصبح الديمقراطية الباكستانية والدستور الباكستاني‮ ‬وقضاته أسرى‮  ‬لحكم العسكر والبطانة الفاسدة المحيطة بها‮ . ‬إذ تنعكس على تلك المؤسسة الفاسدة كل أشكال التململ وسط المراتب العسكرية‮ ‬،‮ ‬برؤيتهم للامتيازات‮ ‬غير المتساوية بين صفوف الجيش‮ ‬،‮ ‬وتعامل كبار القادة مع الضباط الصغار والجنود على أساس عشائري‮ ‬وشخصي‮ ‬،‮ ‬فيفقد الجيش أهم مكوناته واحترامه للذات وللقانون والدستور والوطن وعدالة القضاء‮ . ‬تلك المؤسسة عرضة للتفكك في‮ ‬أية لحظة‮ ‬،‮ ‬ومع انهيارها وتخليها عن دعم مشرف‮ ‬يفقد الرئيس أهم القلاع‮ ‬،‮ ‬ويجعل من قلعته وحصانته ضعيفة إزاء الزحف المدني‮ ‬الكبير‮ ‬،‮ ‬حتى وان هدد بممارسة القوة والعنف معها‮ . ‬لقد بات الخيار الأخير والتحدي‮ ‬الكبير لمشرف‮ ‬،‮ ‬إما التنازل والقبول بتسوية ترك مقعد الحكم والرحيل‮ ‬،‮ ‬بحيث تقبله كثمن‮ ‬،،‮ ‬قيادة الزحف الكبير‮ ‬،‮ ‬ولكن الجميع أصيب بدهشة المفاجأة فقد عقد المحامون صفقة مع حزب الشعب وهم ضيوف العشاء فا ستيقظت إسلام آباد فلم تجد الزاحفين‮ ‬يحاصرون البرلمان ولم‮ ‬يتيحوا لنواز شريف تحويل حركة الاحتجاج إلى سقف أعلى من مطالب الحركة والتصعيد السياسي‮ . ‬وبما أن قادة الحركة المطلبية‮ ‬ينتمون إلى حزب الشعب فإنهم التزموا بالانتظار وتحقيق الحزمة الدستورية بما فيها وعود إعادة القضاة إلى مناصبهم إن لم تكن هناك وعود اكبر لقادتهم‮ ‬،‮ ‬فيكون بذلك الائتلاف الناجح الكبير أولا مشرف ويكون حزب الشعب قادرا على تحريك اللعبة وأوراقها وفق تكتيكاته‮ ‬،‮ ‬فمن جهة كان في‮ ‬الائتلاف الحكومي‮ ‬ومن جهة أخرى‮ ‬يترك للشارع حق الضغط والتواطؤ معه‮ . ‬لقد كان حقا عشاء دسما انتهى فجأة بالاختفاء الغريب في‮ ‬يوم توقع فيه المراقبون مواجهة عنيفة ودموية عند مبنى البرلمان‮ . ‬

صحيفة الايام
1 يوليو 2008