المنشور

كتابة تاريخنا الوطني (1 – 2 )

كنت قد أشرت عرضا قبل ايام في هذه الزاوية الى اتصال هاتفي قد تلقيته من أحد الاخوة الأعضاء في مجلس الشورى السعودي يثني فيه على الحلقة الماضية من هذه السلسلة التاريخية “حكايات من تاريخنا” والتي تناولت فيها بالعرض والتعليق كتاب الأخ الدكتور محمد حميد سلمان “حكايات من زمن البرتغاليين”، وعلى الأخص فيما ذكرته عن حكاية بطل أوال مقرن بن زامل الجبري التي هي حكاية مجهولة في الغالب في مناهجنا التعليمية التاريخية، ومن ثم تطرقنا الى الحاجة الى تفعيل النشاط البحثي والكتابي عن تاريخ بلداننا الخليجية، بمنهجية علمية موضوعية بعيدا عن العواطف والعصبيات على اختلاف أنواعها من سياسية وقبلية ودينية وطائفية وحزبية ومناطقية وخلافها.
وأيد محدثي ما ذكرته من ان الحساسيات السياسية الزائدة لدى صناع القرار في بلداننا الخليجية عامة هي السبب الأول الذي يحول دون تدوين تاريخنا بمنهجية علمية امينة، وان هذه القضية تكاد تكون قضية مشتركة في حقل البحث العلمي التاريخي في كل دول مجلس التعاون دون استثناء. وضرب لي بدوره امثلة ونماذج من وأد محاولات مهمة عديدة جرت لكتابة تاريخ بلاده وكأن لسان حاله يقول “كلنا في الهم شرق”.
 النقطة الأخرى التي ذكرها محدثي السعودي خلال محادثتنا الهاتفية التي امتدت زهاء نصف ساعة هي نقطة جديرة بالذكر وتتمثل في ما اعتاد عليه الحكام العرب والمعارضات العربية من محاولات عبثية لمحو كل ما هو ايجابي في العهود التي سبقتهم ارضاء لنزواتهم السياسية، ومن ثم تصوير كل فترة الحكم السابق، سواء أكانت لحاكم أو نظام سياسي، بأنها شر مطلق، فكأنما التاريخ لم يبدأ إلا بمجيء هذا الحاكم او ذاك الحاكم، او لكأنما التاريخ انتهى بنهاية الحاكم او النظام السابق، سواء جاء الحاكم العربي الجديد الى سدة الحكم بالقوة ام جاء على نحو سلس توارثي او انتخابي صوري بعد وفاة الحاكم السابق، كما في الجمهوريات العربية، والتي غدت بدورها جمهوريات وراثية.
وحتى فترات العهود العربية التي لم يعلن خلالها حكامها العرب مشاريع وشعارات “اصلاحية” لم تكن انجازات هذه العهود معدومة تماما، لا بل تثبت تجارب السنوات القليلة في اكثر من بلد عربي كم تفتقد هذه البلدان الآن لكفاءات تنفيذية ادارية عليا من طراز ومستويات تلك العهود السابقة في اكثر من حقل اداري وفني وعلمي داخل الدولة، وبخاصة في ظل التلاشي السريع لتلك الشعارات الاصلاحية وخفوت اشعاعات بريقها بعد استنفاد اغراضها هي التي لطالما دغدغت مشاعر العامة، لا بل انطلت على النخب السياسية المعارضة.
كما من المسائل الجدير التوقف عندها فيما يتعلق بكتابة التاريخ والتي اختتمت بها حلقة الاسبوع الماضي الخاصة بكتاب الأخ الدكتور محمد سلمان هي مسألة الاسلوب او المنهج المتبع في جل كتاباتنا التاريخية الخليجية بشكل خاص والعربية بوجه عام، حيث يغلب على هذه الكتابات والدراسات التاريخية اسلوب السرد الأجوف الأشبه بسرد الاخبار والوقائع دون الغوص في عمق التحليل السياسي والاجتماعي للفترة التاريخية التي يتناولها الباحث او المؤلف، بما في ذلك تحليل العلاقات الاجتماعية السائدة في الفترة التاريخية موضع البحث والقوى السياسية والاجتماعية المؤثرة والمشهد الثقافي السائد، واوضاع الفئات والطبقات الاجتماعية، وادوار كل منها في حركة التغيير الاجتماعي.
مما لا شك فيه ان ثمة لونا من الكتابات التاريخية لها نكهتها الخاصة المميزة وهذه لا خلاف عليها، لكنها تختلف عن الكتابة او الدراسة التاريخية التي ينبغي ان تقوم على منهجية علمية رصينة بعيدا عن كتابات الخواطر الادبية او السرد او الطريقة “الحكواتية” ان جاز القول. ومن المؤسف ان كل تاريخنا العربي، سواء على الصعيد القطري ام على الصعيد القومي، لم يقيض له بعد ان يكتب على هذه الاسس المنهجية العلمية، اللهم الا محاولات فردية متقطعة من قبل قلة من الباحثين في التاريخ، وما كل ذلك الا لغياب الهامش الكافي لحرية التعبير والديمقراطية، بما في ذلك حرية الحصول على المعلومات وحرية البحث العلمي في كل دولنا العربية.

صحيفة اخبار الخليج
26 يونيو 2008