المنشور

الصّفْعةُ الأيْرلَنْدية

الأيرلنديون شعب صغير وقديم، بلدهم عبارة عن جزيرة أصغر من الجزر البريطانية، واقعة بمحاذاتها؛ مكملة لها، في الركن الشمالي الغربي من القارة العجوز. يتسم الايرلنديون بمزايا وطباع لايمكن دائما التنبؤ بما قد يقومون به .. هذا ما يفيدنا تاريخهم العريق والملتبس ، القديم والحديث !  كانوا جزءًا لا يتجزأ من المملكة المتحدة ، المتكونة  من انجلترة / اسكتلندة / ويلز/ ايرلندة.  ثاروا على التاج البريطاني لقرون طويلة وقامت حروب طاحنة ، عُرفت نهاياتها بحرب الاستقلال ، حتى فرضوا استقلالهم على أعتى قوة استعمارية عرفها التاريخ بالرغم من أن الدهاء البريطاني المشهور أبى إلا أن يترك لهم مشكلة قائمة أشبه بمسمار جحا (مشكلة أيرلندة الشمالية) كعادة هذا الاستعمار العتيق ، الذي خلق في كل ركن من الكرة الأرضية مشكلة مستعصية على الحل.. والشواهد كثيرة، لعل على رأسها مشكلة فلسطين ! 
جمهورية أيرلندة التي أنشئت في سنة 1922 بعد الثورة وحرب الاستقلال الأيرلنديتين دامت لقرون ، هي ليست نفسها في العقود الأخيرة ، على مختلف الصّعُد.. استقرت الأوضاع الاقتصادية فيها إلى درجة أصبحت أيرلندة المعاصرة من أفضل الدول الناجحة اقتصاديا وان كان على حساب تاريخها وثقافتها وطيبة أهلها ودفئهم الإنسانيّ ، التي أصابها كلها الفتور والانحسار.. وها هي اللغة الايرلندية تموت تدريجيا- إن لم تمت بالفعل- لتحل محلها اللغة الانجليزية!  جاءتها الاستثمارات المالية الضخمة من القارة الأم ومن شقيقتها الكبرى ، خلف المحيط ؛ الولايات المتحدة الأمريكية ، التي يعيش فيها عشرات الملايين الأمريكيين من أصل أيرلندي ، كانوا قد هاجروا إليها بأفواج وموجات عديدة ومتتابعة ، في القرون والعقود السابقة هاربين من القحط والمجاعة والحروب 
صفع الشعب الأيرلندي المفوضية العليا للاتحاد الأوروبي ، حينما صوّت برفض “اتفاقية لشبونة” في الأسبوع الفائت بأكثرية اقتربت من 54 % ، محدثا دويا سياسيا هائلا ، مدخلا الزعامة الأوروبية والأيرلندية المتحمسة والمستعجلة لتصديق وتنفيذ بنود الاتفاقية ، في دوامة لا تعرف كيفية الخروج منها ، ومرد ذلك أن الاتفاقية المذكورة والمعدلة عن الاتفاقيات السابقة هي  بمثابة الدستور الأوروبي الذي سينظم كل دقائق الحياة في القارة الأوروبية المعاصرة..  فلماذا حدث غير المتوَقّع هذا؟!  
هناك خطان سياسيان متعارضان فيما يتعلق بمسألة الوحدة الأوربية ، تعبران عن مصالح متباينة وتجسدان الصراع القائم الآن في المجتمعات الأوروبية وتداعياته المركّبة والمتناقضة؛ خط رسمي وشبه شعبي يعبر عن الشعور الأوروبي الموحد في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية وغيرها، حيث يرى ضرورة الاندماج والتصديق الفوري على التشريعات الموحدة ، من قِبَل كل الدول الأعضاء، الذين وصل عدهم الآن 27 دولة أوروبية . هذا الخط ، الموصوف بالليبرالية الجديدة “نيوليبراليزم”، ذو نزعة يمينية برجماتية (بجناحيه المحافظ والمتحرر) ، يصب في مصلحة الصفوة الحاكمة،  لمدّ النفوذ والهيمنة والتحكم في بلدان العالم . واستمرار الهيمنة الداخلية على الناس من خلال خلق مجتمع استهلاكي شرِه كمّيّ لا كيفيّ ، تزداد فيه ظاهرة “الاغتراب” المرضية ، غير عابئ للخصوصيات الثقافية والقومية لكل شعب ، له ميل شبق للربح السريع بأي ثمن حتى لو كان على حساب النظافة البيئية والتشريعات والحقوق التي تمتع بها مواطنو البلدان الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومحاولة التملص عن الضمانات الاجتماعية وتقليصها ، بل حتى التراجع عن الحريات الديمقراطية الأساسية !   وخط معارض شعبي راديكالي لا يلغي صيغة التعاون الضروري بين البلدان الأوروبية، لكنه يرى أن الصيغة الحالية المطروحة تعبر عن مصالح الرأسمال الكبير الذي يريد في الواقع تأسيس دولة مركزية كوزموبوليتية (فوق قومية)، شبه عسكرية ، تجنح للنفوذ والسيطرة، بأدواتها غير المرئية والمتحكمة في الرأي العام عبر سلاح “الميديا” الرهيب ، وإيجاد مجتمعات يتحول فيها المواطنون إلى “مستهلكين” فحسب ، تذوب فيها كل السمات الوطنية والثقافية للناس . ولذك فان هذا الخط  يناضل من أجل تحقيق شعاره : “الرفض لأوروبا الصفوة ونعم لأوروبا الشعب”! 
وصفت تحليلات قوى المعارضة الأيرلندية هذا الرفض بمثابة مسمارٍ رئيسٍ في نعش منظومة الوحدة الأوروبية بمفهومه التعسفي والمركزي، مبتهجة بالنتيجة هذه، على الرغم من الفارق الكبير في القوة والنفوذ وسطوة المال وميزان القوى السياسي ، حيث ساندت وغذت الأحزاب السياسية الأربعة الرئيسة ؛ الفيانا فيل (الحزب الأكبر في الحكومة الائتلافية) ، الفين غيل (المنافس الأول للحكومة) ،  حزب العمال ، التقدمي الديمقراطي (عضو الحكومة الائتلافية) معسكر الموافقين!  أما أحزاب المعارضة للاتفاقية فهي : الشين فين (أقدم حزب سياسي والجناح السياسي للجيش الأيرلندي السري) ، حزب الخضر (عضو الحكومة الائتلافية)، الحزب الاشتراكي ومجموعات أخرى من أحزاب راديكالية صغيرة منتظمة جُلّها في  بلاتفورم “حركة الشعب”، الذي يسيطر عليه الشيوعيون بالتعاون مع الاشتراكيين ،التروتسكيين والمستقلين. فقد رأت المعارضة للاتفاقية انه وبالرغم من المصادر المالية الجبارة وقوة “الميديا “الهائلة لمعسكر ” نعم” ، بجانب القدرة والجبروت لعمليات الابتزاز السياسية التي برع فيه ذلك المعسكر دائما . أما معسكر “لا ” المعبّر عن ما يجيش في وجدان  رجل الشارع العادي ، العامل والمثقف والمزارع الصغير، فقد كان صوتا ضد المركزية المفرطة للقوة والهيمنة ، بل كلمة تعبّر عن رفض الناس لسلطة نخبة “الايليت” السياسية الفاسدة والمرتشية ، المستعدة لخدمة أسيادها في تنفيذ سياسات فوق قومية لمصلحة صفوة الطبقة الحاكمة  “السوبر كلاس”. 
 وكدليل على هذا الرأي من قبل المعارضة ، التي اعتبرت “اتفاقية لشبونة” ميتة الآن ، مشيرة إلى درجة الاستهانة التي وصلت لدى السياسيين المتحكمين في البرلمان الأوروبي ، حيث رأت في تصريحات رئيس المفوضية العليا للوحدة الأوروبية البرتغالي “مانويل بروسو” (قبل وبعد نتيجة التصويت ) حينما قال: “أنهم سيمضون قدما لتنفيذ بنود الاتفاقية، التي مازالت موجودة وهي هنا لتعيش” ، دليل على الاستخفاف الشديد  للرأي العام الأوروبي ، غير عابئ للأصول الديمقراطية ،التي عادة ما يتشدق بها هذا النوع من القياديين، خدم رأس المال العالمي ! 
يبقى السؤال ..  هل ما فعله الأيرلنديون ومن قبلهم الفرنسيون والهولنديون والدنماركيون ، سيُجبر نخبة “الايليت” السياسية من إعادة حساباتها ، لتعديل بنود “اتفاقية لشبونة” بشكل يعبر عن مصالح الأكثرية أو لمراضاتهم على الأقل؟  أو أن الحكومة الأيرلندية ستعيد الاستفتاء مرة أخرى كما فعلت في السابق ويعيد التاريخ نفسه ؟!  .. على أية حال ، سيظل الصراع مستمراً بين نهجين سياسيين مختلفين في القارة الأوروبية ، التي تعتبر مركزا أساسا للمنظومة العالمية المعاصرة .. ولا يستطيع احد أن يتنبأ بما ستستقر عليه طبيعة ومصير الاتحاد الأوروبي المرتجى. 

صحيفة الوقت
24 يونيو 2008