المنشور

من اللاطائفية نحو المستقبل

هل تتصورون أن أحدا يمكن أن يغبط اليوم شعب العراق الشقيق ويتمنى أن يحدث في بلده ما يحدث لديهم؟ أعترف بخجل: أنا هو ذاك. لقد حدثتكم عن زيارتي لبغداد في بداية الشهر الحالي. وهناك، وسط آثار مآسي كارثتين تاريخيتين، الدكتاتورية والاحتلال البغيضين، وجدت لدى العراقيين ما يُغبطون عليه: فيض ونوع العطاء الثقافي الوطني والتقدمي في تحد ضد التوحش، وإصرار كل القوى العراقية تقريبا على استعادة اللحمة الوطنية ومحاربة الإرهاب وإطفاء بؤر الطائفية، الجدل الإيجابي الساخن حول الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية والابتعاد بالعراق عن أن يصبح ساحة للمواجهة العسكرية بين أميركا وإيران. ومع ذلك شهدتُ تعابير عدم الرضا عن بطء هذه التحولات. حضرت عرض فيلم قصير جدا تدور أحداثه في باص نقل دخل ركابه في جدل بيزنطي بينهم: هل اليوم هو السبت، الأحد،.. أم الجمعة. وكل بطريقته حتى ‘’ضاعت الطاسة’’. فهمت أنهم يعكسون الحال في البرلمان وبين القوى السياسية العراقية حكما ومعارضة، بينما الباص هو العراق الذي لم يستقر في محطة بعد.
تعالوا وانظروا لما يجري في واقعنا البحريني: أزمة ربيع الثقافة المتفاعلة منذ عامين بكل ما حوته من عداء رجعي للثقافة والتقدم، التنابز الحاصل بين قيادات الطائفتين الذي تطور إلى مواجهات في المجلس النيابي وانتقلت عدواه إلى تعبئة وتعبئة مضادة من على المنابر وفي الصحافة ثم إلى الشارع، بما رش الملح على الجرح الطائفي، تعاظم الوجود والبناء العسكري الأميركي وسط أخطار تهدد الأمن والسلم الإقليميين، بينما جلسات البرلمان العقيمة لا تلد إلا خداجا كالوعود وعجاجا كالذي يلوث أجواء البحرين هذه الأيام. وفي كل هذه الأمور وجدنا أن القوى الطائفية التي تختلف فيما بينها اختلافا مريرا قد ‘’اتفقت’’ على إلهاء الناس وتعطيل مصالحها المادية والروحية في الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والأمن والسلام.
الفترة الماضية منذ بدء الإصلاحات أثبتت أن القوى الطائفية لا تستطيع أن تقدم للشعب من داخل البرلمان وخارجه غير هذا الذي تقدمه الآن. ولشديد الأسف فإن لديها القدرة على تطويره نحو الأسوأ.. ومهما تطور الأمر، فهذه القوى لا يمكن أن تشكل أحزابا سياسية وطنية ديمقراطية حقيقية حتى وإن أرادت ذلك. وهي بطبيعة تركيبتها الطبقية وعقائديتها وآليات عملها المقيدة بمرجعياتها لا تتنافى ومقتضيات التطور الديمقراطي فقط، بل وتعيش مآزق سياسية متتابعة في إطار أزمة سياسية عامة. وهي تكمن في أن الطائفة، أية طائفة ليست سوى نموذجا مصغرا للمجتمع نفسه وتعيش ذات التناقضات المعتملة فيه. بمعنى آخر هي ليست سوى جسم مفتوح أمام ديناميات سياسية فيما بين الطوائف وفيما بين القوى السياسية غير الطائفية على وجه الخصوص. إنها ليست أحزابا بقدر ما هي صيغ متعددة للعمل الطائفي، بما في ذلك في داخل الطائفة الواحدة، التي تعكس حالة الوعي الموروث والتبعية والعصبية التي ترفض النقد والمحاسبة الجدية. أكثر من ذلك أنه لا توجد وحدة طائفية في الأصل وبشكل عام. وتعدد القوى السياسية في داخل الطائفة الواحدة يؤكد هو الآخر أنها لا يمكن أن تشكل كيانات سياسية بذاتها، بل هي مكررة لتناقضات المجتمع. وبالتالي لا يمكن تركيب دولة ومجتمع ما على أساس بناها الطائفية على المدى البعيد. إن من مصلحة المشروع الإصلاحي أن يضع حدا لهذه الأزمة بتجاوزها. فإذا كان من الممكن الخروج من كل مأزق سياسي على حدة بالعودة عنه، فإن الخروج من الأزمة لا يمكن إلا بتجاوزها نهائيا.
إذن، فالطائفية غير قابلة للإصلاح إلا بتجاوزها. وهذا الكلام صحيح حتى عندما يصح القول بإمكانية استثمار ذلك القليل الإيجابي فيها من باب أن ‘’العصبية كثيرها يدمر وقليلها يعمر’’.
هناك من القادة الطائفيين من ارتقى إلى هذه الدرجة من وعي الأشياء. الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة ‘’أمل’’ اللبنانية اعتبر أن الحزبية الطائفية ليست من المختبر الديمقراطي الليبرالي. أما سماحة السيد محمد حسين فضل الله فرأى أن ‘’كل المشاكل التي عاشها لبنان تنبع من الذهنية الطائفية التي تسحق الكفاءة وتمنع البلد من أن يخطط ليكون هنالك شعب لبناني، إن واقع لبنان هو واقع ولايات غير متحدة، فلكل طائفة مجلسها الديني وسياسيوها ورجال دينها ومناطقها التي لا تسمح فيها لأية طائفة أخرى أن تتدخل فيها، لذلك فليس هناك مواطن لبناني في لبنان، هناك طائفي هنا وطائفي هناك. هذا هو لبنان اليوم’’.
القوى الديمقراطية الحقيقية في البحرين لا تريد لبلدها أن يغدو يوما على هذه الشاكلة. ولذلك جاءت العريضة الشعبية التي أطلقتها القوى والشخصيات الوطنية الديمقراطية والنداء السامي الذي وجهه جلالة الملك لتعبر عن الإرادة الشعبية والرسمية الواعية لمخاطر الطائفية ومن أجل تحويل مسارات البلاد بعيدا عنها متجهة صوب بناء الدولة العصرية. إن هناك بالتأكيد من قادة القوى الطائفية من يرفض هذه الشبهة، وهو بالتالي مطالب بأن يناضل من موقعه من أجل ذات الأهداف النبيلة عاملا على توجيه الجماهير التي يقودها وجهة تخدم هذه الجماهير.
على مفترق الطرق هذا يكون خيار قوى التيار الوطني الديمقراطي الصحيح هو خيار وحدة صفه وبرنامجه للخروج بشعبنا من هذه الأزمة، وطرحه لنفسه بديلا عن القوى الطائفية أو التي تعيش على حسابها، وخيار رجال الدين والقادة الطائفيين المتنورين الصحيح هو الالتحاق بركب التيار الوطني الديمقراطي ونصرته إلى أبعد الحدود. إن من مصلحة بلادنا وشعبنا أن تتداعى كل هذه القوى والشخصيات، وقوى الحكم ذات المصلحة في استكمال بناء المشروع الإصلاحي لصياغة الفكرة الوطنية التي تقوم عليها وحدة البلاد والمجتمع وتقدمه بعيدا عن الطائفية المذهبية والسياسية والقبلية. القضية هنا تدور حول الدولة والمواطنة. الدولة القائمة على القانون والمواطنة المتساوية أمام القانون بغض النظر عن الطائفة أو القبيلة أو الأصل أو الثروة أو المركز الاجتماعي أو غير ذلك. أي أن يكون الانحياز للدولة القادرة والعادلة كمرجعية.

صحيفة الوقت
23 يونيو 2008