المنشور

أهداف وآفاق تيارات “الإسلام السياسي” المعاصرة

استكمالاً لما طرحناه في الأسبوع الفائت حول ظاهرة تيارات”الإسلام السياسي” المعاصرة ، وسرّ  قوتها المستمدة أصلاً من احتضان الأنظمة العربية الرسمية لها (خاصة الأنظمة التقليدية المشرقية) واستخدام الأخيرة للأولى متكأ وسندا لها لتمديد أمد أنظمتها الاستبدادية الشرقية المزمنة ، وسدّاً منيعا يحول دون دخول العرب- ولو متأخراً- إلى عصر التنوير والتقدم والانضمام إلى المنظومة المعاصرة في عالم اليوم، مما يُسهّل لهم –بالطبع- من استخدام مصادر ثرواتهم المادية والبشرية الثريّة ( أهمها النفط والغاز بجانب معادن وثروات باطنية أخرى بالإضافة إلى المحاصيل الزراعية) والاستفادة من الموقع الجغرافي المهيّأ للبلدان العربية وتاريخهم العريق، بُغية تشييد منظومة اقتصادية متكاملة ومجتمع مدني ديمقراطي ومؤسساتي ، يتمثّل جوهره الأساس في مبدأ فصل الدين عن الدولة ، الأمر والسبيل الوحيد الذي سيفضى في نهاية المطاف إلى الوحدة العربية المأمولة على أساس أسْلَم وأضمن من المحاولات القومية “الفوقية” المتعثرة وغير الديمقراطية السابقة ! 
على أنه وفي معرض تحليلنا للعوامل الكثيرة والعديدة التي ساعدت في هذا الانتشار “السرطاني” المخيف للقوى “المتأسلمة ” أو “الإسلام السياسي” وخاصة أجنحتها المفصليّة ، المتزمتّة والإرهابيّة . كان بالطبع على رأسها السند الغربي/ البريطاني ( في العقود الوسطية من القرن العشرين) والأمريكي منذ سبعينات القرن المنصرم ، في أتون الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي / الرأسمالي والشرقي / الاشتراكي، بالإضافة إلى الفورة الكبرى التي حصلت عليها قوى “الإسلام السياسي” بعد تأسيس جمهورية إيران الإسلامية . حدث كل ذلك  قبل سقوط المنظومة الدولية للقطب الثنائي . أما بعد ذلك ، تحديداً في الألفية الثالثة فان التناقض التاريخي، الذي كان مؤجلا بين المنظومة الرأسمالي/الليبرالية والمنظومة الإقطاعية القديمة في الشرق الأوسط ، ما لبث إلاّ وطفح على السطح مفصحا ، بكل وضوح عن بروز التناقض الأساس في عصرنا ولحظتنا التاريخية الراهنة، في المكان والزمان المحددين . هذا بشرط أن لا يؤخذ هذا الأمر المُركّب والمُعقّد بشكل ميكانيكي ، بمعنى ضرورة فهمنا لايجابيات وسلبيات محصّلة النتائج المترتبة من صراع القطبين الجاري الآن، والمنبثقة من مبدأ المصلحة الواقعية (الاقتصاد) أكثر من مبدأ الإنصاف والعدل الرغبوية (الأخلاق) .. وهنا نتجرأ قليلا لنقول لمن يريد أن يفهم حركة الواقع المعاصر، في منطقة شرق المتوسط الحيوية ، ولا يأخذ في حسبانه هذه الحقيقة الموضوعية /التاريخية/المرحلية وتجلياتها من صراعات ومصالح ، ستفضي فروضه التحليلية إلى نتائج غير سليمة!  
فمن باب أولى في هذا الصدد أن نحدد مصطلحات ؛ “الإسلام السياسي / اسلاميزم ” و”الأصولية” ، المتعلقة بحركة سياسية شمولية ، منتشرة في كل بقاع الأرض ، تتخذ من الدين الإسلامي مرجعية شاملة لها ولا تتعامل مع الدين الإسلامي كأحد الأديان التوحيدية السماوية بجانب المسيحية واليهودية فحسب، بل كنظام سياسي شمولي هدفه ومنهاجه الأساس إعادة تأسيس الثيوقراطيا / الدولة الدينية ، على شكل دولة الخلافة العثمانية. يدعي العلماء والمريدون الإسلاميون ؛ العودة إلى صحيح الدين وأصول الشّرع والتطبيق الحَرْفي والنصّي الثابت والمطلق، لتحقيق هدف استراتيجي ملزم لكل مسلم للجهاد والاستشهاد ، بُغية سيادة النظام العالمي الإسلامي ، بكل السّبل المتوفرة ، بينها الإرهاب وقتل النفس ، لتحقيق “العدل الإلهي” و”شرع الله” لبني البشر قاطبة ! 
كما أن “الأصولية” أيضا مفهوم ملتبس في الفكر المعاصر، ومرد ذلك أن كبار المفكرين الإسلاميين يعتقدون بيقينية غريبة من ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها في كل الدول الإسلامية والتخلص من القوانين الوضعية والمدنية، غربية المنشأ وبترها من دار الإسلام.  ويرون استحالة هذين التشريعين أن يتعايشا معاً.. بل وضرورة  العودة إلى الأصول ، إلى عهد النبي المصطفى (صلعم) والخلفاء الراشدين ! ولكن مقارنة بسيطة بين صدر الإسلام والعصور الوسطى نجد بكل وضوح أن مفاهيمهم أقرب إلى دول الاستبداد”الإسلامي” في العصور الوسطى ، مستلهمين من منبعهم الأول ؛”الغزالي” ، الذي أوقف الاجتهاد الإسلامي المبدع ، منهلين زادهم من اجتهادات وتفاسير علماء الدين ، المتّصفين بالنصّية والتزمّت أكثر من العلماء المعتدلين أمثال؛ الأفغاني ، محمد  عبده ، حسين عبد الرزاق وغيرهم . فركنوا إلى مرجعيات عتيقة في التقاليد والتزمّت والنصّية والنهج المطلق، حتى في الأمور الدنيوية العادية كالملبس (الحجاب الإسلامي) والمأكل وغيرهما من الأمور الشخصية البحتة والمتغيرة أبداُ ، أمثال ؛ السوري “ابن تيمية” (القرنين 13 و 14 ) الذي حدّد  كُليانية الشريعة الإسلامية وعدم جواز تجزئتها ، وأستهجن الاحتفال بالمناسبات الدينية وغيرها ، منها المولد النبوي الشريف!  والباكستاني “سيد أبو الأعلى المودودي” الذي أسس تيار الجماعة الإسلامية في سنة 1941  وكان وراء الانفصال عشية استقلال شبه القارة الهندية وتأسيس دولة باكستان على أساس ديني(بتحريض من بريطانيا)، حين لخّص القضية الإسلامية المقدسة في ندائه الشهير: ” الهدف النهائي للإسلام هو هزيمة الكفر والقضاء على كل الدول وتشييد الخلافة الإسلامية الموحدة في كافة بقاع الأرض ! “. والمفارقة هنا أنه لم يكن في التاريخ الإسلامي أبداً دولة دينية بالمعنى الحقيقي للكلمة لمتابعة مهام ” الثورة المحمدية”، باستثناء فترة سلطة المدينة في عهد الرسول الأعظم (صلهم) وسلطة مكة في عهد الخلفاء الراشدين. أما بعد ذلك، منذ “الأمويين” مروراً “بالعباسيين” وغيرهما من الممالك الاستبدادية المتتابعة وانتهاءً بالخلافة العثمانية، التي كانت كلها نماذج سيئة لدول استبدادية، لم تعرف من الإسلام إلاّ الإسم والشكل وليس الجوهر، المسيرة التاريخية التي أفضت إلى مختلف أشكال الدول والأنظمة الإسلامية الحديثة والمعاصرة! 
على أن الظاهرة المستحدثة التي يجب على أصحاب القرار والنفوذ ، الذين يهمهم استمرار مصالحهم بشكل أكفأ وأقل تكلفة وضرراًُ ، في الدول المعنيّة ، هو أهمية استشعارهم لخطورة الأنشطة الشاملة ” للإسلام السياسي” الآن وليس بعد خراب البصرة وضرورة أن يدركوا أن لعبة “الروليت الإسلامي” الخطرة التي يتلهون بلعبها ، ستنقلب عليهم كانقلاب السحر على الساحر ويُسهّل من قفز “الإسلاميين” إلى مقاليد السلطة والحكم. حينئذٍ ستزول كل منجزات التقدم والعلوم والحضارة، كما حدث في أمارة طلبان البائدة ، ويحدث الآن شيئاً من ذلك، أمام أعيننا في بلدان “اسلاموية” أخرى . بل أن جدّية وخطورة “المتأسلمين السياسيين” وصلت إلى درجة لا تطاق، بدا فيه السلطات الرسمية في البلدان العربية /الإسلامية تحسب لهم ألف حساب من مغبة ما لا تحمد عقباه! 
وها هو رجل الدولة العتيد  في مملكة البحرين سمو رئيس الوزراء، قد شخّص خطورة هذه الظاهرة في الوقت المناسب قبل الكثيرين من رجالات الدولة والسياسة الكُثُر في منطقتنا ، المتّسمة بالتحديات الجدّية من كل حدب وصوب، في معرض مقابلة حصرية ومقاربة للتقرير السنوي “البحرين2008 “، الخاص عن مملكة البحرين  المزمع إصداره عن ؛ شركة الأبحاث والنشر والاستشارات الاقتصادية المتخصصة “أكسفورد بزنيس جروب”  حيث قال في سياق تحليله العميق عن تجربة البحرين الديمقراطية : ” من المعلوم أن الديمقراطية تدعم عملية التطور السياسي وتعمل على تحقيق الاستقرار جنبا إلى جنب مع النمو الاقتصادي ، ويبدو ذلك واضحا في البحرين من خلال الارتقاء بقيمة المواطن البحريني بغض النظر عن انتمائه الديني أو المذهبي وفصل الدين عن المؤسسات الحكومية وكذلك في الإعلام الرسمي وغير الرسمي وزيادة المشاركة في الحياة العامة والسياسية  وقبول التعددية السياسية واحترام الاختلاف في الرأي حول مختلف القضايا “  -  ( المرجع صحيفة أخبار الخليج البحرينية العدد  11035  صفحة 2   يوم الاثنين 9 يونية 2008 م ) . 
وبقت الأسئلة المحورية التي تؤرق”الانتلجنسيا” والمواطن العادي على السواء .. ما إذا كانت هناك فروق بين تيارات “الإسلام السياسي” ؟ .. وهل هناك معتدلون، وسطيون ومتطرفون إسلاميون ؟!  وهل ممكن للمعتدلين منهم أن يغضّون الطرف عن تأسيس الدولة الدينية وقبولهم بالتعدية السياسية والموافقة على الولاية العامة للمرأة والمسائل الأساس مثل قانون الأحوال الشخصية وحل إشكالية “الحجاب”، الذي هو الآن أشبه بركن سادس للإسلام لدى جُلّ التيارات الإسلامية؟!  وأخيراًُ.. هل سيتطور”الإسلام السياسي” مع مرور الزمن ، وستتمخض عنه أحزاب سياسية عصرية ، ذي خلفية فكرية إسلامية فحسب ، تركن أساسا لمفهوم المواطنة الحديثة ، الخاضعة للقوانين البشرية الوضعية العلمانية ، تقبل بمبدأ تبادل السلطة، أسوة بظاهرة الأحزاب الدينية المسيحية في أوروبا أو على الأقل حزب الرفاه التركي الحاكم(مع الفارق) ؟!  أسئلة تبحث عن أجوبة شافية، سنحاول التطرق إليها في فرصة سانحة أخرى.
 
صحيفة الوقت
15 يونيو 2008