المنشور

الثانوية العامة بين الأمس واليوم


على الرغم من مرور نحو مائة عام على العمل بنظام الثانوية العامة منذ قيام التعليم النظامي العربي، فإن موسم ظهور نتائج الثانوية العامة مازال له بريقه الخاص المميز، ويحظى بالاهتمام الكبير المنقطع النظير على المستويين الحكومي والشعبي، وهو اهتمام يتفرد عن سائر الاهتمامات بنتائج المراحل الدراسية المختلفة فمن نافلة القول إن شهادة اتمام الثانوية العامة هي أهم الشهادات على الاطلاق التي تحدد مصير الطالب العلمي والمهني وتحدد وجهته العلمية والمعرفية المتوائمة مع ميوله ومجالات نبوغه طبقا لمستوى تحصيله العلمي وما أحرزه من نسبة عالية في الامتحانات النهائية.
وإذ الدول بدورها تهتم بهذه الفئة العمرية لكونها القاعدة العلمية الشابة لتأسيس وبناء جيل جديد من الموارد البشرية التي يعتمد عليها في النهضة التنموية والحضارية فإلى أي حد تعبر نسب ودرجات الثانوية العامة المرتفعة عن التفوق الحقيقي والتي ظهرت على نحو غير مسبوق خلال عقدين ونيف في عدد من البلدان العربية وبضمنها الخليجية؟ قبل هذه الفترة التاريخية، كما نعلم، كان أقصى ما يصل إليه الطالب المتفوق من خريجي القسم العلمي 98% وفي حالات نادرة يصل فيها الطالب إلى نسبة 99% أما متفوقو القسم الادبي فلا يصل الاول منهم الى أكثر من 90% بأي حال من الاحوال، وهنالك بالطبع اسباب عديدة ذاتية وموضوعية وراء هذا التحول في نتائج الثانوية العامة بالدولة العربية ولا تقتصر هذه الاسباب بالطبع على التغير الذي طرأ على المناهج والنظم التعليمية بل تتشابك مع عوامل اجتماعية وادارية واقتصادية ليس هنا موضع استعراضها او الغوص فيها.
لكن من الثابت ان هذه النسب العالية في الدرجات التي تلامس نسبة “المائة في المائة” ليست دليلا على ان اجيال الثانوية العامة الذين برزوا خلال العقدين الماضيين هم اكثر اجتهادا او اكثر نبوغا من الاجيال التي سبقتهم. على العكس من ذلك فقد عرف عن الاجيال السابقة نبوغهم ومثابرتهم واجتهادهم وانكبابهم على الدراسة، هذا في الوقت الذي لم يكن متاحا لديهم كل هذه الوسائل والوسائط التقنية البالغة التطور المسخرة لتحصيلهم العلمي، ولم يكن كل هذا الكم الهائل من المغريات المادية والتكنولوجية متوافرا لاغوائهم وانشغالهم عن الدراسة كالتي متوافرة لدى اجيال اليوم.
والاهم من كل هذا وذاك فمن اللافت ان اعداد من يتمتعون بثقافة عامة في اجيال الماضي هم اكبر بكثير من اجيال اليوم، بل ان مستوياتهم هي أعلى من مستويات من يتمتعون بهذه الثقافة في اجيال الحاضر. ومن المؤسف ان البحوث العربية لدراسة هذه الظاهرة التعليمية وتحليل ما طرأ من تحول كبير في شهادة الثانوية العامة العربية، والخليجية على وجه أخص، مازالت قليلة او معدومة. وقد اطلق العديد من الباحثين على ظاهرة التضخم في درجات الامتحانات بـ “المرضية الجديدة” وهي اضحت اليوم لا تقتصر على شهادات الثانوية العامة فقط بل تمتد الى الجامعات العربية والعالمثالثية، لا بل وحتى الامريكية، واصبحت هذه الظاهرة مقلقة لعلماء وخبراء التربية الامريكيين الذين باتوا يرون من المستحيل على أرباب العمل وكليات الدراسات العليا الحكم على مستويات الطلاب اعتمادا على مجرد ارتفاع نسبهم العليا في الدرجات العلمية.
وفي هذا الصدد لم يتوان الاستاذ ستيوارت روستا وهو استاذ جامعي في واحدة من اشهر الجامعات الامريكية الا هي جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا عن التعليق على هذه الظاهرة بالقول: “عندما يكون الجميع تقريبا حاصلين على معدل درجات يتراوح بين “الامتياز والجيد جدا” تغدو التقديرات كمؤشر لقياس مستويات الطلبة لا معنى لها ويصبح من الظلم مكافأة المتفوقين لانتفاء المصداقية مادام الجميع متشابهين على الورق. ويضيف: ان هذه الظاهرة برزت في الثمانينيات مع بروز ثقافة استهلاكية جديدة داخل الجامعات تنظر الى الطلبة كزبائن ومن الضروري ارضاؤهم في تقدير الدرجات لتسهيل متطلبات التحاقهم بمرحلة الدراسات العليا بدلا من التشدد في التقدير الذي يؤدي الى عزوف الطلبة عن الالتحاق بهذه الجامعات”.
ويخلص هذا الاستاذ الامريكي الى التساؤل الاستنكاري التالي: “كيف يسمح المسؤولون عن الجامعات والهيئات التدريسية بهذا الانعكاس غير المباشر لتوازن القوى بحيث يصبح رضا الطلاب وهو المعيار الاساسي الذي يعلو فوق كل المعايير الأخرى؟” وهو سؤال يصح تماما على الاوضاع والمعايير التي آلت اليها الثانوية العامة العربية.
 
صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2008