المنشور

غلاء أسعار النفط والغذاء والانفجارات الممكنة

ظل العالم‮ ‬يراقب حالة ارتفاع أسعار النفط بصورة هادئة،‮ ‬وبدا انه‮ ‬يتقبلها،‮ ‬حيث كانت تبدو له ظاهرة مرتبطة تارة بأزمات لها علاقة بالحرب ومكان اشتعالها أو حتى احتمال أن تشتعل،‮ ‬إذ التوترات السياسية والتصريحات الهوجاء بإعلان الصدام عنها بين أطراف معينة مسألة محتملة، ‬يجعل من‮ ‬يديرون أوراق البورصة العالمية قادرين على التلاعب بتلك العملية السياسية،‮ ‬كما إن هناك بلدانا تسارع في‮ ‬الطلب على تلك المادة الهامة في‮ ‬تشغيل وسائلها الحيوية،‮ ‬هذا الطلب العاجل لبضاعة مهمة كالنفط‮ ‬يجعلها في‮ ‬الحال ترتفع لكون المنتجين‮ ‬يعملون على زيادة إنتاجهم،‮ ‬وأحيانا لا‮ ‬يحتاجون القيام بذلك،‮ ‬فهناك نقص في‮ ‬الأسواق العالمية‮.‬
‮ ‬فآبار عدة معطلة تحتاج للصيانة وعلى المنتجين تغطية السوق حتى وان ارتفع السعر قليلا لبضع سنتات،‮ ‬مثل تلك السنتات الصغيرة في‮ ‬أعين المستهلكين الصغار تبدو تافهة بينما لدى من‮ ‬يشترون بالملايين ويبيعون بالملايين‮ ‬يعرفون قيمتها الفعلية،‮ ‬هكذا اخذ النفط‮ ‬يرتفع مع حكايات وقصص وهمية،‮ ‬فيما عدا هناك قصص حقيقية‮ ‬يعرف قيمتها مشترو السلعة ومنتجوها هي‮ ‬الحاجات الموسمية لكل دول العالم،‮ ‬سواء في‮ ‬بلدان معنية بالتدفئة والطاقة أو دول أعدت خططا عظيمة لتنميتها نتيجة تسارع النمو فيها،‮ ‬وكونها قادرة على ابتلاع كميات كبيرة من النفط،‮ ‬دول كالصين والهند لا‮ ‬يمكنها إلا الموافقة،‮ ‬ودول تمتلك تلك الشركات النفطية العملاقة كالولايات المتحدة تدرك كل خفايا اللعبة،‮ ‬فتقوم بالتخزين أحيانا،‮ ‬كونها تدرك ماذا‮ ‬يفعل الشيطان النفطي‮ ‬حاليا في‮ ‬العالم،‮ ‬مما أنتج مع الارتفاعات الصاروخية المتلاحقة أزمات مستفحلة في‮ ‬كل أسواق العالم،‮ ‬خاصة وان المستهلكين الصغار‮ ‬ينزفون من جيوبهم‮ ‬يوميا‮. ‬فقد صار النفط مهما في‮ ‬المواصلات بشكل اكبر من أي‮ ‬قطاع آخر،‮ ‬فعلى من‮ ‬يمتلكون السيارات والسفن والمسافرين بالطائرات أن‮ ‬ينتظروا جحيم الضرائب والتكاليف الجديدة التي‮ ‬ستضاف إلى القيمة الجديدة للسلعة،‮ ‬ناهيك عن المشتقات التي‮ ‬صرنا نستهلكها دون أن نعرف أنها قادمة من جحيم الشيطان النفطي،‮ ‬الذي‮ ‬سيشعل العالم احتجاجا واعتصاما وإضرابا‮. ‬
فلماذا نستغرب بداية العواصف القادمة مستقبلا؟ فارتفاع أسعار المواد الغذائية لها بهذا الشكل أو ذاك علاقة بمتغيرات دولية في‮ ‬الأسعار، ‬وبتداخل البلدان بالتدريج في‮ ‬كل ما هو مرتبط باتفاقية التجارة الحرة،‮ ‬ولن‮ ‬يتضرر في‮ ‬البلدان الغنية والفقيرة إلا تلك القطاعات الصغيرة وأصحاب الأجور المتدنية في‮ ‬ظل أسعار مرتفعة وجنونية وأجور متدنية اختل توازنها في‮ ‬السوق والإنتاج والتسويق والتوزيع،‮ ‬مثلما اختل توازن العرض والطلب،‮ ‬بين دول مستهلكة للسلعة ودول منتجة له،‮ ‬وهذه المرة صارت المواد الغذائية طرفا جديدا مع النفط كسلعة تهدد حياة الناس في‮ ‬كوكبنا،‮ ‬ومن لا‮ ‬يملك اليوم راتبا مرتفعا فانه‮ ‬يشعر بكل ذلك الثقل اليومي‮ ‬القابع على أنفاسه،‮ ‬ونزيف جيبه ونضوبه بسرعة‮..‬
‮ ‬فراتب الشهر ما عاد قادرا على تلبية كل حاجاته الحيوية ومستلزماته الضرورية،‮ ‬لهذا وجدنا أن مئة مليون إنسان في‮ ‬العالم حسب الإحصائيات الأخيرة للأمم المتحدة،‮ ‬مهددون بالفقر والجوع،‮ ‬بينما الملايين الأخرى مهددة بتدني‮ ‬مستوى معيشتهم ورفاهيتهم كشريحة اجتماعية،‮ ‬إذا ما ظل النفط‮ ‬يسارع خطاه نحو الارتفاع دون أن‮ ‬يلجمه احد،‮ ‬بعد أن دخل للسوق قطاعات جديدة تضارب وتلعب بالأسعار والمواد الغذائية وأسعار النفط،‮ ‬ونجحوا في‮ ‬الهروب من الرقابة والتشريعات التي‮ ‬سنتها دول في‮ ‬الفترة الأخيرة‮. ‬
انخفض الدولار‮ “‬العزيز‮” ‬وفقد ثلاثين في‮ ‬المئة من قيمته في‮ ‬الأسواق الخارجية،‮ ‬ونجحت الولايات المتحدة في‮ ‬لعبتها من جعل العملاق الصيني‮ ‬يفقد تلك القوة من احتياطات الدولار المخيفة في‮ ‬خزينته،‮ ‬في‮ ‬وقت تبيع الشركات العملاقة نفطها بأسعار باهظة،‮ ‬فماذا تفعل الطبقة العاملة والمنتجون الصغار في‮ ‬أوروبا وفقراء أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا إزاء محنتين،‮ ‬ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي‮ ‬يمضغونها وتتوجه لمعدتهم والمواد النفطية التي‮ ‬تمضغها آلاتهم ووسائل إنتاجهم ؟‮!‬
لقد أصبحت العولمة المتوحشة قادرة على خنق الإنسان والآلة التي‮ ‬بحوزته كما هي‮ ‬حالة العبيد القدماء بسلاسلهم،‮ ‬فهم اقل من أي‮ ‬قيمة إنسانية،‮ ‬وعلينا أن ننتظر خروج سبارتاكوس الجديد من قلب أوروبا من قلب إخطبوط الإضرابات المتسارعة والممكنة،‮ ‬والتي‮ ‬نراها تشتعل بالتدريج في‮ ‬قارة أوروبا الموحدة جغرافيا وسياسيا،‮ ‬فيما راحت دول أمريكا اللاتينية تلوح بمخاطر الانفجار،‮ ‬محاولة احتواء الأزمة باجتماعات قمة للالتفات بتنمية جماعية خشية من شبح الجوع والفقر القادم أكثر مما وصلت إليه حالة بعض بلدانها،‮ ‬والمأساة أننا بتنا نقارن ظاهرة الفقر بحالة الوضع الأكثر فقرا‮!‬
إن الإضرابات الجزئيــة الصغيرة المتناثرة والاحتجاجات المتنامية في‮ ‬اسبانيا وألمانيــا وايطاليا وبريطانيــا،‮ ‬وتــذمر سكــان القـــارة الأوروبيــــة باستمــرار،‮ ‬ليس إلا إنــذارا‮ ‬يطـــرق الجرس بقوة،‮ ‬ومن‮ ‬يتخيلون من تلك الدول المنتجة للنفط أنهم قادرون على النوم بهدوء والتملص من المسؤولية،‮ ‬يشاركهم حفنة‮ ‬يلعبون بالأسعار في‮ ‬الغرب لدى سكان تلك الدول،‮ ‬بحيث اخذوا‮ ‬يمتصون جيوبهم من بداية الشهر‮. ‬
إن اشتعال الغضب‮ ‬يبدأ من التذمر الصامت والهمهمة حتى نسمع بعدها صوتا‮ ‬يعلو،‮ ‬وبعدها‮ ‬يخرج السكان والعمالة الأجنبية والمهاجرون المقيمون بطرق شرعية وغير شرعية،‮ ‬في‮ ‬هيجان عشوائي،‮ ‬وسرعان ما تنخرط النقابات والمنظمات الأخرى من منظمات المجتمع المدني‮ ‬في‮ ‬تلاحم مشترك تهتز فيها أوضاع العالم،‮ ‬فلا‮ ‬يعرف الساسة وأثرياء اللعبة ماذا‮ ‬يفعلون لحظتها حينما تشتعل حرائق الفوضى الجماعية؟‮!‬
‮ ‬من‮ ‬يعتقدون أن صيفنا سيمر هادئا واهمون،‮ ‬فكل نقابات المواصلات والاتصالات‮ ‬يرون في‮ ‬الصيف والمواسم السياحة أفضل المواسم للضغط وتحقيق المطالب‮. ‬بالتأكيد لسنا متفائلين كثيرا ولكننا نحاول أن لا نسقط في‮ ‬سوداوية التشاؤم اللعين‮.‬

صحيفة الايام
15 يونيو 2008