المنشور

حماية المال العام‮ .. !‬

نفهم أن المال العام هو كل ما تملكه الدولة وأجهزتها وشركاتها ومؤسساتها من أموال سائلة أو عينية كالمعدات والأجهزة والمباني والموارد الطبيعية من نفط وغاز ورسوم وأراضٍ وسواحل وكل ما هو مخصص للمنفعة العامة ويدخل في ذمة الدولة المالية.
ونفهم بأن المال العام أمانة ومسؤولية ، والدستور قضى بحرمته ونص على أن حماية المال العام واجب على كل مواطن “المادة ٩ – ب” وفي المادة “١٢” نص الدستور بأن “الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك للدولة ، تقوم على حفظها وحسن استثمارها بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني”.
إذا فهمنا المال العام من تلك الزاوية ، وأردنا المضي في استطلاع بعض وقائع التعدي على المال العام ، فإننا لا نجد دليلاً أبلغ من هذا الذي لا يمكن وصفه إلا بالكارثة، حينما سلطت لجنة التحقيق البرلمانية في تجاوزات السواحل قبل أيام ضوءاً حول حجم التجاوزات الواقعة على البحر والسواحل بفعل الردم، فعلى ذمتها فإن الأموال التي أهدرت بفعل الردم بلغت ملياري دينار قيمة الرمل البحريني الذي تأخذه الشركات والمؤسسات الاستثمارية مجاناً من دون رقيب أو حسيب لتقيم مشاريعها على السواحل ووسط البحار في المياه الإقليمية وعلى مساحات شاسعة تغطي ملايين الأمتار المربعة ، هذا في الوقت الذي بات معلوماً أن الدولة تعاني من أزمة عدم توافر الرمل وتقوم باستيراده من السعودية بأسعار مرتفعة.
كارثة حقاً حينما تضيع حقوق الدولة بهذا الشكل الفج وتخسر خزينة الدولة المليارات من الدنانير تلو المليارات تتسلل إلى جيوب أشخاص لم يبيعوا الرمل فقط، وإنما باعوا الرمل والبحر والموقع في مشهد بائس افتقد الحسابات الدقيقة كما افتقد التخطيط في الهدف العام – وغيبت فيه قواعد الضبط والربط، وتقاليد العمل الاقتصادي السليم والرؤية الإستراتيجية المستقبلية.
وكارثة حينما يعج هذا الملف بالمجهولات التي تجعل الهجمة على الأراضي والسواحل والبحار تستمر من دون إبطاء أو توقف ولتتحقق ثروات طائلة للبعض دونما اعتبار لحق الأجيال القادمة، ولا نجد حيال ذلك سوى تلويح عن توجه، مجرد توجه أعلن بأنه يهدف إلى سن التشريعات التي تحد من المخالفات التي تتم في عمليات الدفان وبيع الرمال ، هذا هو التوجه المعلن ولا شيء غير ذلك.
 وحين لا يكون ضمن هذا التوجه التزام واضح يصّوب هذا الوضع ويوقف هذا العبث المستفز على ثروة البحرين من الأراضي والسواحل التي تباع وتشتري دون أن يعلم أحد من هو البائع ومن هو المشتري ، وما هو نصيب الدولة وخزينتها من صفقات البيع والشراء، فإن ذلك في حد ذاته أمر مفجع .
وإذا كان هناك الكثير مما يمكن أن يقال في دلالات هذا المشهد ، وبمقدورنا أن نستقبل المزيد من الإشارات التي تؤكد على سوء التعاطي مع هذا الملف المثير لكثير من الشجون، وأن نستخرج من الذاكرة ما لا حصر له من الوقائع والتفاصيل التي كثير منها منشور ومتداول وكلها تقلبّ لنا المواجع وتؤكد بأن هذا الملف لم يحمل في يوم من الأيام محمل الجد، فإن مشاهد الاعتصامات المتكررة لأهالي المناطق الساحلية آخرها الاعتصام الأخير في الأسبوع الماضي لعشرات من أهالي قرى كرباباد والديه والسنابس والمقشع والقلعة على ساحل كرباباد للمرة الثانية احتجاجاً على عمليات الدفان التي طالت مساحات شاسعة من الساحل، ما هي إلا صورة مسكونة بالمرارة و زادها مرارة ما جاء على ذمة عضو مجلس بلدي العاصمة حميد منصور بأن مساحات الدفان بلغت 10 ملايين قدم مربع بقيمة تصل إلــــى 2.5 مليار  دينار ، مؤكداً بدوره على فداحة الكارثة، بعد أن تحولت السواحل العامة بقدرة قادر إلى أراضٍ خاصة لصالح بعض المتنفذين.
وإذا كنا نعلم جيداً بأن المضي قدماً في خوض هذا الملف قد يصدمنا الى حد الذهول وقد يفاجئنا بما لم يكن في الحسبان، أو يكشف مستوراً لا يخطر على بال مما يسّوغ الاعتراض ويستوجب الاحتجاج، فإن السؤال : ماذا يعني ذلك؟ والى متى يستمر ذلك ؟ وهو سؤال ردده كثيرون من قبل ويردده كثيرون الآن وسيردده كثيرون في المستقبــل!
– لعل أول ما يعنيه ذلك وما قبل ذلك ومن دون استفاضة ، أن قيمة المساءلة وقيمة المسؤولية ذاتها غائبتان عن الوعي العام ولا أثر لها ولا اعتبار في إدارة وصيانة المال العام!!
– إنه يعني أن ملف الأراضي وأملاك الدولة من الثروات الطبيعية مازال شأنا ينتظر من يتولاه بكل جرأة وحسم .
إن هذا الملف سيبقى أهم وأكبر وأخطر ملفات – التجاوزات والفساد على الإطلاق . أما إلى متى يستمر ذلك فعلمه عند المولى العلي القدير، وكل ما بمقدورنا هو أن نجعل هذا الملف على البال دوماً نلح عليه ونستعجله مرة ومرات ، نفعل ذلك بقناعة أننا لن نجد عقلاً سوياً يفسر ويسّوغ هذا التفريط بغير ضابط ولا رابط في أحد أهم الموارد الطبيعية، ربما ذلك بعض ما يعنيه هذا الملف ، ولا نعلم إن كان ما صرح به النائب العام في حديثه التلفزيوني يوم الجمعة الماضي يعني إمكانية أن يوضع هذا الملف برمته وبكل أبعاده بين يدي النيابة العامة، وأن يؤخذ هذا الملف مأخذ الجد هذه المرة ، فالنائب العام قال إن النيابة العامة لا تستند إلا على القانون والضمير، وإنها تتحرك اذا ما رأت جريمة واضحة الأركان والمعالم، وإن الخطوط الحمراء والشخصيات المتنفذة تتساقط أمام النيابة العامة.
 فإذا كان بمقدور النيابة العامة أن تفعل ذلك حقاً ، فهل يمكن أن نعّول عليها بأن تأخذ زمام المبادرة في سبيل مواجهة أكبر جناية في حق أهم ثروات وموارد البحرين الطبيعية التي نص دستور المملكة على حمايتها، والقانون قضى بالدفاع عنها.
 أما الرهان على دور لجنة التحقيق، أو دور أعضاء مجلس النواب في تحريك هذا الملف ، وقدرة النواب على أن يدفعوا للسير بالأمور في نصابها الصحيح الممكن، فذلك أمر مؤجل لأننا لسنا واثقين من جدية وصدقية نوابنا في التعاطي مع هذا الملف المهم ، ففي حدود ما نعلم فإن قدراً لا يستهان به من المعلومات الخاصة بهذا الملف بات متوافراً لدى لجنة التحقيق، فهل سيكون ذلك كفيلاً بأن يطرح هذا الملف للتداول دون أن يكون النواب موضع الانقياد والامتثال والانصياع لأي ضغط أو تجاذبات أو مساومات للأسباب التي نفهمها ، وبالأساليب التي نعرفها ، فلازال ماثلاً أمام أعيننا وفي أذهاننا تلك الممارسات الرديئة التي شهدناها في الآونة الأخيرة وأبطالها غالبية النواب، وإذا كان هذا هو الحال ربما من المناسب علينا أن نذكر، فلعل الذكرى تنفع النواب، نذكر بأن مستوى التعاطي مع هذا الملف ، ومع ملف التجاوزات والفساد برمته، ومن ضمنه حتماً قضية فساد “ألبا”الفاقعة ، وتقرير ديوان الرقابة المالية، فإما أن يكون إنجازاً حقيقياً للنواب يفاخرون به، أو يضيفون إلى رصيدهم ما يحبطنا وينفرنا منهم، والله المستعان.
 
الأيام 13 يونيو 2008