المنشور

كيانات وُجدت لتفكك

أوروبا تتوحد،‮ ‬ومحل الكيانات‮ – ‬الدول‮ ‬ينشأ اتحاد‮ ‬يأخذ شيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬من سيادة تلك الدول في‮ ‬اتجاه بلورة هوية أوروبية مشتركة،‮ ‬أما عالمنا العربي‮ – ‬الإسلامي‮ ‬فيزداد تفككاً،‮ ‬وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه،‮ ‬فعلينا توقع انبثاق كيانات جديدة أصغر فأصغر‮.‬ يدفعنا ذلك إلى مشارف الاستنتاج،‮ ‬فنقول إن الدولة‮- ‬الأمة في‮ ‬أوروبا قد استوت إلى مرحلة النضج،‮ ‬التي‮ ‬لا تجعلها خائفة من الاندماج في‮ ‬كيانٍ‮ ‬أوسع،‮ ‬يُثريها وتثريه‮.‬
أما الدولة الوطنية،‮ ‬أو القطرية إن شئنا،‮ ‬في‮ ‬عالمنا العربي‮ – ‬الإسلامي‮ ‬فقد شارفت على مرحلة إفلاسها التام،‮ ‬قبل أن تنجز مهمتها،‮ ‬في‮ ‬بناء كيانات حديثة،‮ ‬قوية ومتطورة‮.‬ نواة تمزق هذه الكيانات وانحلالها إلى عشائر وقبائل ومذاهب كامنة في‮ ‬بنيتها الهشة من الأساس‮.‬ هذا ما‮ ‬يلحظه كيسنجر في‮ ‬مقالته موضوع الإشارة في‮ ‬حديثنا‮ ‬يوم أمس،‮ ‬فالحدود التي‮ ‬رسمت الدول والكيانات القائمة هي‮ ‬صنيعة المنتصرين في‮ ‬الحرب العالمية الأولى الذين قسموا بلدان هذه المنطقة بشكلٍ‮ ‬اعتباطي،‮ ‬يوائم توزيع الغنائم فيما بينهم،‮ ‬وما اتفاقية سايكس‮ – ‬بيكو إلا التعبير الأبلغ‮ ‬عن هذا‮ “‬الترسيم” ‬الاعتباطي‮.
هل نذهب أكثر في‮ ‬هذا الاستنتاج،‮ ‬لنقول إن الغرب،‮ ‬خاصة بريطانيا وفرنسا وهما‮ ‬يتقاسمان مناطق النفوذ في‮ ‬منطقتنا كانتا‮ “‬تقيمان” ‬كيانات وجدت لتتفكك بعد حين،‮ ‬لا لتبقى‮.‬ إنه افتراض‮ ‬ينطوي‮ ‬على وجاهة،‮ ‬إذا ما عاينا هذا الهجين الغريب الذي‮ ‬تشكلت منه هذه الكيانات‮.‬ وفاقم من ذلك أن من حكموها لم‮ ‬يتوفروا على برامج واضحة لبناء دول حديثة،‮ ‬تمتلك أسباب القوة والمنعة،‮ ‬وتحقق لشعوبها ما هي‮ ‬في‮ ‬حاجة إليه من عيشٍ‮ ‬كريم وحياة حرة،‮ ‬فلا هي‮ ‬أمنت لقمة العيش ولا فضاء الديمقراطية،‮ ‬مما جعل من هذه المجتمعات على حافات الانفجار الذي‮ ‬ظل مؤجلاً‮ ‬حتى حانت لحظته،‮ ‬التي‮ ‬يعدها كيسنجر واحدة من ثورات ثلاث في‮ ‬عالم اليوم‮.‬
في‮ ‬كلماتٍ‮ ‬أخرى،‮ ‬أضاعت هذه الحكومات فرصة أن تصهر الهجين الذي‮ ‬منه تشكلت هذه الكيانات في‮ ‬دولٍ‮ ‬للمؤسسات والقانون،‮ ‬قائمة على الحقوق والواجبات المتكافئة لمواطنيها،‮ ‬وتتخطى عناصر ما قبل الدولة،‮ ‬في‮ ‬اتجاه بناء الدولة‮.‬ يبقى السؤال الأصعب عن حدود مسؤولية التدخلات الخارجية في‮ ‬دفع الأمور نحو هذا المآل،‮ ‬وكما في‮ ‬حال‮ “اصطناع‮” ‬كيانات كثيرة في‮ ‬المنطقة،‮ ‬حين كان لفعل فاعل خارجي‮ ‬أكبر الأثر فيه،‮ ‬فإن تفكيك هذه الكيانات إلى وحدات أصغر،‮ ‬لا‮ ‬يبدو أنه‮ ‬يجري‮ ‬بعيداً‮ ‬عن تأثير فعل فاعل خارجي‮ ‬مشابه‮.‬ مع فارق أن مركز القرار انتقل من لندن وباريس،‮ ‬إلى ما وراء المحيط،‮ ‬في‮ ‬واشنطن‮.‬
 
صحيفة الايام
10 يونيو 2008