المنشور

ثقافة التضامن‮ “ماراثون طويل‮”

بعد عرض قائمة أسماء الموقعين على ميثاق،‮ “صحفيون ضد الطائفية‮”‬،‮ ‬والتي‮ ‬أطلقتها جمعية الصحفيين،‮ ‬ودعت فيه إلى المشاركة والتضامن مع هذه الحملة،‮ ‬باعتبارها شعارا وحملة وطنية تهم مجتمعنا كافة،‮ ‬في‮ ‬أجواء بدت فيه اللحمة الوطنية التاريخية معرضة للاختراق الطائفي،‮ ‬والنهش من داخل نسيجنا الاجتماعي،‮ ‬الذي‮ ‬كان ذات‮ ‬يوم أكثر تماسكا وتداخلا وصلابة‮. ‬وقد شارك فيها لفيف من الكتاب والصحفيين والإعلاميين والمثقفين،‮ ‬غير أن من‮ ‬يستعرض الأسماء الموقعة لا‮ ‬يجد تلك الأسماء التي‮ ‬يستوجب مشاركتها،‮ ‬ليس كون الميثاق مشروعا نابعا من جمعية مهنية وضعت على عاتقها حمل رسالة الدفاع عن الحريات،‮ ‬بل وانطلقت إلى أبعاد أكثر أهمية وسياسية تؤثر مباشرة وغير مباشرة على أوضاعنا في ‬شتى المجالات‮.‬
‬فالطائفية داء إذا ما استشرى وترسخ،‮ ‬فان مظاهره الأعمق والأبعد تعرض المجتمع إلى درجات متباينة من الصدامات اليومية والكراهية المستشرية والعزلة الاجتماعية والإنسانية والمهنية إذا ما وجدت مجالاتها الخصبة،‮ ‬والطائفية أخصب مجال لها‮. ‬ومن هنا علينا أن نتفاعل بقوة مع أي‮ ‬حملة تضامنية أو تحمل في‮ ‬عمقها أفكارا احتجاجية رافضة إلى تلك الظاهرة السياسية الخطيرة‮. ‬
دون شك إن‮ ‬غياب الأسماء المهمة في‮ ‬حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية لا‮ ‬يعني‮ ‬أنها تقف في‮ ‬وجه فكرة مواجهة ورفض الطائفية،‮ ‬فهي‮ ‬ظلت وستظل تاريخا من المواقف المعادية للطائفية منذ أن حملت أفكارا قومية ويسارية وغيرها من أفكار وطنية منذ فترة الخمسينات،‮ ‬وقد تمنيت أسماء مهمة اعتلت منبر الصحافة والإعلام والثقافة والكتابة منذ أن كنا صغارا ورأينا فيهم نبل المواجهة والرفض لتمزيق وطننا،‮ ‬بل جاء هذا الميثاق الصحفي‮ ‬في‮ ‬فترة لتوها على‮ ‬غياب احد أبرز طلائع الصحافة الأستاذ المرحوم حسن الجشي،‮ ‬الذي‮ ‬رفع راية محاربة ومناهضة الطائفية ناعتاً‮ ‬إياها بتعبير،‮ ‬الطامة الكبرى،‮ ‬فكان‮ ‬يقرأ بنبوءة عميقة وبعيدة عن تلك الطامة‮. ‬فإذا لم‮ ‬يضع الأستاذ الجشي‮ ‬لتلك الأزمة والعلة حلولا وتحركا سريعا‮ ‬يومها،‮ ‬فانه بالضرورة أشار إلى مسألة هامة هي‮ ‬ضرورة التماسك لوحدتنا الوطنية في‮ ‬زمن كان‮ ‬ينتمي‮ ‬إليه إعلاميا ورمزا من رموز صحافته الوطنية ووجها من وجوه الحركة الوطنية‮ ‬يومها‮. ‬
من‮ ‬غابوا بفعل الوقت والانشغال واللامبالاة وظروف أخرى،‮ ‬فإننا لسنا الجهة التي‮ ‬ترى في‮ ‬غيابهم تخاذلا أو نكرانا لدور الصحافة والحريات في‮ ‬مواجهة الطائفية،‮ ‬بل نتفهم حقيقة الالتباس والارتباك الاجتماعي‮ ‬والسياسي‮ ‬والمهني،‮ ‬فمن‮ ‬غاب عن التوقيع كانت لديه أعذاره ونحن لن نرى في ‬غيابهم تعمدا أو انصرافا عن أهمية التضامن،‮ ‬ولكن ما نرمي‮ ‬إليه في‮ ‬مقالتنا تلك الدلالة والقيمة السياسية للمجتمع المدني‮ ‬الذي‮ ‬عليه بناء وتكريس ثقافة جديدة وديمقراطية،‮ ‬يتعلم ويعلم الشارع السياسي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬فيها قيمة واتساع المشاركة في‮ ‬كل ما هو‮ ‬يعكس الضرورات،‮ ‬وان نجعل من القضايا الكبرى محل اهتمام مهما كانت مشاغلنا ومواقفنا المتناقضة واختلافاتنا وغيرها من القضايا الفكرية والسياسية‮. ‬
إن طرح كل مبادرة ذات قيمة سياسية واجتماعية علينا أن نغذي‮ ‬بها جيلنا الجديد ونعّلمه ماذا‮ ‬يعني‮ ‬قيمة التضامن والاستنكارات والاحتجاجات على كل ما هو معاديا ويمس قضايا الإنسان والمجتمع والحرية‮. ‬من تقاعسوا عن التوقيع أو وجدوا في‮ ‬الوثيقة تمثيلا لجهة ما؛ فإنهم وقعوا في ‬تفسيرات ضيقة في‮ ‬رؤاها،‮ ‬فمن‮ ‬يقرأ النص والأفكار والجهة الداعية لها‮ ‬يكتشف أن مجتمعنا المدني‮ ‬وظروفنا السياسية تتجه نحو تنشيط أفكارا ايجابية شتى‮. ‬
وكما هو اليوم،‮ ‬فان في‮ ‬المستقبل قد تنطلق مبادرات وقضايا تدعونا أن نتحرك بسرعة وروح جماعية وإرادة واحدة في‮ ‬مناهضة الحرب والتمييز الاجتماعي‮ ‬والعنصري‮ ‬والجريمة وكل أنواع التدمير والعنف والتشديد على السلم والسلم الأهلي،‮ ‬وتناشدنا بأهمية وقيمة الدفاع بقوة عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان،‮ ‬فان علينا أن نتوقف أمام كل قيمة كبرى وعظيمة في‮ ‬تاريخ الإنسانية التي‮ ‬كثيرا ما رفعت رايات خفاقة ودافعت عنها،‮ ‬مهما تبدلت الظروف والمراحل واستجدت المتغيرات،‮ ‬يبقى الإنسان والمجتمع في‮ ‬حراكه المستمر وصراعاته مركزا أساسيا في‮ ‬صلب عملية التغيير‮. ‬وعلينا التعلم والتحرك في‮ ‬أجواء مفتوحة وجديدة وديمقراطية،‮ ‬إذ لا‮ ‬يمكن تأسيس المجتمع المدني‮ ‬بالزعيق،‮ ‬بقدر ما هو نشر الثقافة التضامنية لما هو مهم ونبيل‮ ‬يخدم حياتنا السياسية والأخلاقية والمجتمعية،‮ ‬مثل مناهضة الطائفية التي‮ ‬علينا أن لا نغمض العين عن كل الأصابع الأخطبوطية التي‮ ‬تحاول التغلغل في‮ ‬كياننا ونسيجنا الوطني‮. ‬من ماتوا وهم‮ ‬يناهضون الطائفية سيظلون بذاكرة وطنية رائعة،‮ ‬ومن‮ ‬يواصلون وهم أحياء‮ ‬يرفعون راية مكافحتها بكل الطرق‮ ‬يبقون دائما هم مشعل حريتنا ونهضتنا ونسيجنا الوطني‮ ‬الصلب‮. ‬
لهذا نحتاج لفعاليات كثيرة تفوق توقيع هام من قبل جمعية مهنية،‮ ‬إذ اعتبر ذلك ليس إلا انطلاقة ومبادرة خيرة للمستقبل؛ فالحرب على الطائفية ماراثون طويل‮.. ‬وطويل مثال كل معاناتنا ورغبتنا في‮ ‬حياة أفضل لشعبنا ووطننا،‮ ‬وقد منحنا مشروع الإصلاح ساحة جديدة لكي‮ ‬نركض في ‬الاولمبياد البحريني،‮ ‬فلا‮ ‬يجوز أن نخشى التعب واللهثان والتعثر والعطش،‮ ‬بل وإمكانية فقدان الثقة في‮ ‬النفس بأننا سنسقط من منتصف الطريق‮.‬

صحيفة الايام
10 يونيو 2008