المنشور

أوليس‮ ‬غريباً؟‮!‬

ازداد في‮ ‬الآونة الأخيرة تداول الأنباء بشأن فتح خط مفاوضات بين إسرائيل وسوريا بوساطة تركية‮.‬
التداول بدأ بتسريبات صحافية‮ ‬غير ذات بال لعدم تعليق الطرفين المعنيين عليها،‮ ‬بل إن بعض المصادر السورية حرصت على نفي‮ ‬وجود مثل هذه المفاوضات بالقول إن سوريا‮ ‬غير معنية بنهج المفاوضات السرية وإنها مع مفاوضات تجري‮ ‬بين الطرفين في‮ ‬العلن‮.‬
لكن سرعان ما بدأت تتكشف خيوط هذه الاتصالات،‮ ‬وتطور عمليات نقل الرسائل بين دمشق وتل أبيب والدور المحوري‮ ‬الذي‮ ‬يلعبه رئيس الوزراء التركي‮ ‬رجب طيب أردوغان،‮ ‬شخصياً،‮ ‬في‮ ‬هذه العملية‮. ‬وما لبث الأمر أن أخذ منحى جديداً‮ ‬بإقرار الطرفين السوري‮ ‬والإسرائيلي‮ ‬على أعلى المستويات بوجود مثل هذه المفاوضات‮.‬
وفي‮ ‬اليوم الذي‮ ‬أعلن في‮ ‬الدوحة عن اتفاق المعارضة والموالاة في‮ ‬لبنان على إنهاء الأزمة اللبنانية بوساطة قطرية ناجحة ولافتة،‮ ‬ازدادت سيولة الأنباء المتعلقة بالمفاوضات السورية الإسرائيلية‮. ‬إذ أعلن الطرفان‮: ‬السوري‮ ‬على لسان وزير الخارجية وليد المعلم،‮ ‬والإسرائيلي‮ ‬على لسان الناطق باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي‮ ‬إيهود أولمرت،‮ ‬بأن مفاوضات‮ ‬غير مباشرة تجري‮ ‬بين الطرفين بوساطة تركية في‮ ‬اسطنبول منذ الإثنين‮ ‬19‮ ‬مايو الماضي‮.‬
إنها مفاجأة بلا شك تبعث على الحيرة والارتياب‮. ‬فكيف‮ ‬يمكن أن تجري‮ ‬مفاوضات على أحد أهم مسارات التفاوض العربية الإسرائيلية،‮ ‬وهو المسار السوري‮ ‬الإسرائيلي،‮ ‬من دون مشاركة الطرف الذي‮ ‬نصَّب نفسه،‮ ‬بكل الأمر الواقع،‮ ‬وكرسها كراع وحيد للمفاوضات بين العرب وإسرائيل،‮ ‬وهو الولايات المتحدة‮!‬
فهل تكون هذه المفاوضات تجري‮ ‬من وراء ظهرها؟ أو هل من المعقول أن إسرائيل لم تطلع الولايات المتحدة على سير هذه المفاوضات من قبل وأثناء انطلاقها؟
وهل‮ ‬يعقل أن تأتي‮ ‬ردة الفعل الأمريكية على هذا النحو من الحذر وكأنها بوغتت بإعلان سوريا وإسرائيل المتزامن عن وجود هذه المفاوضات مع أن الرئيس السوري‮ ‬كان قبل حوالي‮ ‬شهر أكد في‮ ‬مقابلة صحفية بريطانية أنه فعلاً‮ ‬تلقى عرضاً‮ ‬من إسرائيل عبر تركيا بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران‮ (‬يونيو‮) ‬1967؟
الأدهى أن واشنطن،‮ ‬بخلاف فرضية المباغتة،‮ ‬أبدت ما‮ ‬يشبه الاعتراض على استمرار التفاوض بقول وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إن واشنطن معنية بالمسار الفلسطيني‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬للتفاوض وحسب‮!‬
ثم إن هذا الموقف الأمريكي‮ ‬الغامض لا بد أن‮ ‬يسحب نفسه على مسألة توقيت الإعلان‮. ‬فالوقت ليس وقتاً‮ ‬لإطلاق مبادرات سلمية من الوجهة الإسرائيلية والأمريكية،‮ ‬أي‮ ‬إن سوق السياسة الشرق أوسطية هذه الأيام ليس سوق‮ ‘‬بولييش‮’ ‬‭(‬Bullish‭)‬‮ ‬بمفهوم أسواق المال،‮ ‬بل سوقاً‮ ‬متراجعة‮ (‬كاسدة‮). ‬لذلك من المستغرب أن تجد صفقة بحجم صفقة إعادة الجولان السوري‮ ‬إلى سوريا طريقها للإبرام في‮ ‬ظل ميزان القوى‮ (‬قوى السوق مجازاً‮) ‬الحالي،‮ ‬أيضاً‮ ‬من وجهة المصلحتين الأمريكية والإسرائيلية‮.‬
بالنسبة لواشنطن الوقت هو وقت تشديد الضغوط السياسية والاقتصادية على دمشق وليس وقت تنفيس أوضاعها المضغوطة‮. ‬هذا على الأقل ما تطالعنا به المعطيات السارية منذ الغزو الأمريكي‮ ‬للعراق واحتلاله في‮ ‬العام‮ ‬‭.‬2003
وهنالك سؤال آخر‮ ‬يطرح نفسه من باب الشك‮ ‘‬الديكارتي‮’ ‬المشروع،‮ ‬وهو لماذا بادر الطرفان الإسرائيلي‮ ‬والسوري‮ ‬إلى الإعلان عن وجود مثل هذه المفاوضات،‮ ‬أي‮ ‬بفتح أبواب التشويش عليها من قبل أطراف ثالثة،‮ ‬ناهيك عن اضطرار الطرفين في‮ ‬هذه الحالة إلى اتخاذ مواقف علنية للاستهلاك المحلي‮ ‬قد تضر بسير المفاوضات؟
فالإعلان عن المفاوضات قد‮ ‬يكون بمثابة تحرير شهادة وفاة للمفاوضات وهي‮ ‬في‮ ‬المهد‮.‬
وماذا عن سوريا؟
الخناق،‮ ‬كما هو ملاحظ‮ ‬يزداد على سوريا‮. ‬ولم‮ ‬يعد‮ ‬يقتصر على مبادرات وفعاليات أمريكا وإسرائيل،‮ ‬وإنما صار‮ ‬يشمل بعض الأنظمة العربية الرئيسة التي‮ ‬بادرت إلى إحداث قطيعة مع دمشق ودخلت معها في‮ ‬نوع من الحرب الباردة‮.‬
ويبدو أن دمشق بدورها وقد‮ ‬يئست من استعادة مكانتها داخل النظام العربي‮ ‬ومن التعويل عليه،‮ ‬اتجهت للبحث لها عن بدائل لدى تركيا،‮ ‬وإيران بطبيعة الحال،‮ ‬وربما مراكز ثقل أخرى بديلة‮.‬
وليس أفضل من فتح نافذة صغيرة في‮ ‬سور مسار التفاوض مع إسرائيل على موضوع هضبة الجولان السوري‮ ‬المحتل،‮ ‬وسيلة لشراء بعض الوقت وخلق مساحة من حرية الحركة داخلياً‮ ‬وخارجياً‮ ‬ريثما تتبلور أوضاع مواتية لدمشق للعودة إلى الساحتين الإقليمية والدولية‮.‬
وعلى ذلك،‮ ‬فإن كل الأطراف المنخرطة في‮ ‬هذه العملية،‮ ‬لاسيما سوريا وإسرائيل،‮ ‬لها حساباتها الخاصة التي‮ ‬لا‮ ‬يبدو أن التوصل إلى حل‮ ‬يدخل ضمنها،‮ ‬لأن الأطراف المعنية ذاتها‮ ‬غير مستعدة،‮ ‬حتى اللحظة على الأقل،‮ ‬للإقدام على خطوة دفع الثمن المطلوب لإنجاز صفقة التسوية بصورة نهائية‮.‬
في‮ ‬ما‮ ‬يتعلق بإسرائيل،‮ ‬فإن حكومتها الضعيفة ليست في‮ ‬وضع‮ ‬يؤهلها لخوض هذه المجازفة‮ ‘‬الاستثمارية‮’ (‬السياسية‮) ‬ناهيك عن أن المزاج في‮ ‬إسرائيل ليس مزاج سلام بصورة عامة‮.‬
ولذلك فإن الاعتقاد السائد،‮ ‬والراجح على ما نزعم،‮ ‬هو أن لا تسفر هذه العملية برمتها عن شيء ملموس،‮ ‬إلا إعادة تعرّف طرفيها،‮ ‬سوريا وإسرائيل،‮ ‬على المواقع والمواقف المستجدة بشأن موضوع التسوية‮.‬

صحيفة الوطن
7 يونيو 2008