المنشور

في لبنانْ.. كلُ حزبٍ بما لَدَيهم فَرِحونْ

وضع اتفاق الدوحة أخيراً العربة على السكة في لبنان، لكن السؤال الآن من يحرك تلك العربة المليئة بالألغام ومصالح الأحزاب المتباينة، المنطلقة أساسا من نظام المحاصصة الطائفية، سيئ الصيت وكيف يجري تطبيق جميع بنود ذلك الاتفاق على الأرض وهنا تكمن الصعوبة الحقيقية.
صحيح أن لقاء الدوحة الأخير قد نجح في صيغة «لا غالب ولا مغلوب» بين الفرقاء اللبنانيين، مما أبعد شبح حرب أهلية طاحنة، كانت تطل برأسها وكادت أن تندلع حين غزت ميليشيات «حزب الله» بيروت الغربية في ذلك اليوم، الذي سيدخل التاريخ، كونها انعطافة سلبية تظل في الذاكرة الجمعية للبنانيين لفترة طويلة. وسيحل أول يوم في رحلة الألف يوم، الذي يجري حثيثا في نهاية المطاف نحو بسط سلطة الدولة في لبنان على جميع أراضيها، الأمر الذي يعني عمليا سيطرة الجيش اللبناني على أي سلاح خارج سلطته وهيبته والمقصود أولا سلاح حزب الله. وهو البند الأساس (بسط سلطة الدولة) ضمن بنود انتخاب رئيس الجمهورية التوافقي العماد ميشال سليمان (الرئيس الثاني عشر والعسكري الثالث بعد فؤاد شهاب وإميل لحود) وتشكيل حكومة وحدة وطنية بصيغة محاصصة أعطت 16 حقيبة وزارية للموالاة، 11 للمعارضة، 3 لرئيس الجمهورية والاستعداد للانتخابات القادمة (حسب قانون الانتخابات العائد لسنة 1960).
على أن تنفيذ هذه البنود الملتبسة على الأرض أمر آخر، خاصة أعقد البنود، المتمثل في بسط سلطة الدولة، الأمر الذي ينظر ويؤول له حسب المصلحة والمزاج الحزبيين والطائفيين، بل يجري ليّ عنق الواقع إلى درجة أن المراقبين خصوصا المثقفين، قد انقسموا وتخندقوا إلى فئتين صارا يتباريان في مسألة الفائز والخاسر في محصلة اتفاق الدوحة. سنرجع في فرصة سانحة أخرى لتحليل هذه الظاهرة الملتبسة لدى الكثرة الكثيرة والتي في حاجة إلى معرفة الأصول الفكرية والفلسفية لمنهاج التفكير والتحليل لدى هؤلاء.
لقد حُلّ الإشكال الأهم، المتمثل بانتخاب «العماد ميشال سليمان» بأغلبية قلّ نظيرها في التاريخ السياسي اللبناني، 118 صوتا من أصل عدد النواب الـ ,127 مقابل 9 أصوات، ضم 6 أوراق بيضاء اعتراضية و3 أوراق تهكمية مكتوبة، مجهولي الهوية، عدا ورقة النائب «بطرس حرب» الذي اقترح جلسة سريعة للبرلمان اللبناني، لتغيير البند المتعلق بالتصويت الرئاسي حتى لا تشوبه أية شائبة قانونية أو دستورية، لكن رئيس البرلمان نبيه بري أسقط الاقتراح بجرة قلم. بدا «سليمان» وهو يتلو خطاب القسم حكيما بالفعل في وقت تعتبر الحكمة مفقودة، بل عملة نادرة أكثر من أي وقت مضى. تتّسم شخصية الرئيس الجديد بخصال وميزات لا تتوافر دائما. مثل، الاعتدال، الحزم، التواضع والبساطة، الإخلاص والتفاني. الأمر الذي انعكس في طرحه لسلة من البنود والمشاريع الواقعية، البعيدة عن الوعود والحلول السحرية، لافتاً إلى أنه لوحده لا يمكنه تحقيق أي شيء. جاءت خلاصة البنود كالآتي: بسط سلطة الدولة، الاعتراف المتبادل للتمثيل الدبلوماسي مع سوريا، أولوية ملف المغتربين، الملف الاقتصادي والاجتماعي، استراتيجية الدفاع والمقاومة الوطنية ضد العدو الإسرائيلي فقط، ضرورة وأولوية لغة الحوار بعيدا عن التشنج والبذاءة والتخوين، المحافظة على الحريات الشخصية والعقائدية المنطلقة من دولة المؤسسات الديمقراطية.
إن مقارنة بين خطاب الرئيس ميشيل سليمان وخطاب أقوى قطب سياسي، أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، ترينا بوضوح كم أصبح السيد حسن بعيداً عن حركة الواقع وسمة العصر وعن موازين القوى الدولية والإقليمية. جال في قوقعة غريبة، مقسما فئات الشعب اللبناني إلى سبعة أقسام (قدسية النظرية السباعية الخرافية) معتبراً نفسه ومريديه أشبه بالفرقة الناجية السابعة، المخولين بأنفسهم للذود عن الوطن. دخل في صومعة الانتشاء والذّوب في حاكمية «ولاية الفقيه» الغريبة عن العصر والمنطق.
أما فيما يتعلق بردود الفعل المتنوعة بإعادة تكليف فؤاد السنيورة لرئاسة الحكومة، فإنها تعبر عن حالة الاحتقان السياسي التي سوف تستمر، خاصة وان المعارضة مجبرة الآن على قبول شرب هذا العلقم (التعامل مرة أخرى مع ثعلب سياسي في وزن فؤاد السنيورة)، وذلك بسبب توقيعها على اتفاق الدوحة أمام الملأ، ولا يمكنها الرضوخ عن ذلك وان كانت تريد ذلك في قرارة نفسها. اختير السنيورة ليرأس الحكومة الانتقالية القادمة بـ 68 صوتاً، هي مجموع أصوات «الموالاة» ضد بقية الأصوات «المعارضة» الـ,59 التي امتنعت جُلّها عن تسمية أحدٍ، عدا قلة سميت أشخاصا آخرين.
في اعتقادي المتواضع أن اختيار السنيورة جاء ضربة معلم ولو أن فريق الأغلبية أكد على عدم كيدية ذلك الاختيار، الذي أُخذ فيه بعين الاعتبار عدة أسباب وجيهة. أولا جاء اختياره لدهائه السياسي المتمكن، حيث إن السنيورة واضح في خطابه المعتدل، فلم يأتِ بكلمة في غير محلها (سابقا أو لاحقا) إضافة إلى أنه ورقة مستعملة، من الحكمة الاستمرار في الاستفادة منها، بُغية تهيئة «سعد الحريري» أو غيره للدورة القادمة. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يفلح بعد الفرقاء المتنافسون في الاتفاق على توزيع الحقائب الوزارية بل إن العملية التي قيلت إنها لا تستغرق أياماً معدودات، سوف تستغرق أسابيع. والخلاف الآن يتركز على الحقائب السيادية والخدماتية، لعل أهمها، حقيبة الداخلية التي قد تؤول إلى شخص محسوب على رئيس الجمهورية. أما الحقائب الأربع الباقية (الخارجية والدفاع والمال والعدل) فستتناصف بين المعسكرين اللدودين.
 
صحيفة الوقت
1 يونيو 2008