المنشور

ماذا جرى في الدوحة؟

في البداية لا بد من تهنئة اللبنانيين باتفاق الدوحة، الذي نأمل في أن يكون فاتحة خير، وبداية سلم أهلي نرجو أن يطول أمده سنين وسنين، ولو أن بيت الداء ما زال مستمراً، ونقصد به الطائفية السياسية. كما يجب أن تُهنأ الدبلوماسية القطرية النشيطة حقيقة، التي استطاعت أن تُنجز للبنانيين ما لم يستطيعوا إنجازه لأنفسهم، خلال شهور عديدة من الانقسام السياسي، الذي كاد أن يزج بلبنان في آتون حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر. وثالثاً فإن التهنئة موصولة إلى جامعة الدول العربية على هذا الإنجاز، وهي التي لم تعرف الإنجاز في تاريخها إلا ما ندر.
ما حدث في دوحة قطر خلال الأيام القليلة الماضية شيء حقيقة لم يكن في الحسبان، فكل شيء كان يوحي بأن العقدة كانت دائماً في المنشار، وأن لوردات السياسة في لبنان لن يتوصلوا إلى اتفاق مهما كان نوعه، وخاصة عندما أصرت الأكثرية (الموالاة) على طرح موضوع سلاح حزب الله على مائدة المفاوضات، فيما كانت الأقلية (المعارضة) تصر على استبعاد هذا الموضوع، على أساس أن السلاح هو سلاح المقاومة. لا نريد هنا مناقشة كون السلاح هو سلاح حزب خاص، أم أنه سلاح مقاومة عامة، وما هو المقصود بالمقاومة واختلاف مفاهيمها لدى كافة الأطراف، فذاك موضوع آخر. المهم هو أن اتفاقاً لم يكن متوقعاً قد حدث، وانطبق قول الشاعر هنا: ضاقت فلما استحكمت حلقاتها، فُرجت وكنت أظنها لا تُفرج، أو: اشتدي أزمة تنفرجي. ما حدث في الدوحة هو شيء من هذا القبيل، ولكن لا بد أن لكل شيء سبباً، فلا غيبيات في عالم السياسة المعيش. فما الذي جرى في الدوحة بالتحديد؟
منذ أن خلا مقعد الرئاسة الأولى في لبنان، لم يستطع أرباب السياسة اللبنانية أن ينتخبوا رئيساً، وتأزمت الأمور حتى وصلت إلى طريق مسدود، وكانت ذروتها احتلال حزب الله لبيروت، وتأزم العلاقة بين الطوائف، وخاصة بين المسلمين السُنة والشيعة، حتى كادت البلاد تنجرف إلى حرب أهلية مدمرة، لولا ذكريات الحرب الأهلية الأخيرة، التي ما زال اللبنانيون يعانون من نتائجها وتركتها الثقيلة، ولولا تأني بعض الأطراف اللبنانية، التي لم تنجرف وراء رائحة الدم والبارود. كل تلك المشاكل، وكل ذلك الصراع والنزاع الذي استمر أشهراً طويلة، استطاع أرباب السياسة اللبنانية أن يتجاوزوه في أيام معدودة في الدوحة، وكان بإمكانهم فعله في بيروت، من دون تدخل من جامعة الدول العربية أو الدبلوماسية القطرية، السؤال هو: ما الذي حدث في الدوحة ولم يحدث في بيروت، حتى يتفق «الأعدقاء» على حل للأزمة مهما كان نوعه؟ في ظني أننا لا نستطيع أن نفهم ما جرى في الدوحة، من دون أخذ المتغيرات الدولية والإقليمية في الحسبان. فليس سراً أن دولاً إقليمية ثلاثا في المنطقة، أو لنقل ثلاث قوىً إقليمية، تتابع الوضع في لبنان، على أساس أن مثل هذا الوضع وتغيراته له علاقة بأمنها الوطني، على اختلاف مفهوم الأمن الوطني لدى كل دولة. هذه القوى الثلاث هي السعودية، وإيران، وسوريا.
فبالنسبة للسعودية، فإن استقرار الوضع في لبنان، واستمرار التوازن الطائفي هناك، هدف استراتيجي لها، وبالتالي فإنها لن تسمح باختلال مثل هذا التوازن، ومن ثم عدم استقرار قد يُعرض أمنها الوطني للخطر، ولذلك فإن مصلحتها الوطنية، تدفعها دفعاً إلى عدم ترك الساحة.
أما بالنسبة لإيران، وهي الباحثة عن زعامة إقليمية، ونفوذ شامل، فإن مصلحتها، تقتضي منها أن يكون لها موطئ قدم ونفوذ مؤثر في لبنان. أما المصلحة الوطنية السوريا، فهي أن يكون لها وجود راسخ في لبنان، بل محاولة أن يكون لبنان مجرد تابع سوري، وليس دولة مستقلة ذات سيادة. التقاء المصالح بين هذا الطرف وذاك، يؤدي في النهاية إلى قيام نوع من التحالف بينهما من أجل تحقيق غاية، هي في النهاية تحقيق لأمنهما الوطني، كما تتصوره القيادة هنا وهناك. وإذا كان الاستقرار في لبنان هو المحقق للمصلحة الوطنية السعودية، وللأمن الوطني السعودي، فإن المصلحة السوريا الإيرانية المشتركة هي في الإخلال بالتوازن الطائفي اللبناني، ومن ثم استمرار حالة التوتر والاحتقان وعدم الاستقرار، من حيث أن ذلك هو الحالة الوحيدة التي تسمح بالنفاذ إلى الداخل اللبناني، وخاصة بعد الخروج السوري من هناك، وتحقيق وجود فاعل في الساحة اللبنانية، ومن هنا ينشأ تضارب المصالح، وتصادم مفاهيم الأمن القومي بين إيران وسوريا من جهة، وبين السعودية من جهة أخرى.
ومن أجل تحقيق الغاية الإستراتيجية لكل دولة من هذه الدول، تأتي التحالفات مع القوى الداخلية في لبنان، خاصة أنه من المعروف أن الطائفية السياسية عبر تاريخ لبنان، كانت دوماً دافعاً لبحث هذه الطائفة أو تلك عن حليف خارجي، أو حتى راع خارجي، لمساعدتها على الوجود الفعال، أو حتى مجرد الوجود، في وجه تضخم نفوذ هذه الطائفة أو تلك من طوائف لبنان، وذلك حين تجد هذه الطائفة أن مصلحتها مرتبطة برعاية خارجية، وحين تجد تلك القوة الخارجية أن مصلحتها تقتضي التحالف السياسي مع هذه الطائفة أو تلك، ويكون هناك التقاء مصالح بالتالي. المعادلة اللبنانية الطائفية تبقى هي المحدد لأسس اللعبة السياسية الداخلية في لبنان: تحالفات في الداخل، في ظل تحالفات مع الخارج، تبدو طائفية في ظاهرها، وهي سياسية في أعماقها. من هنا ندرك طبيعة العلاقة بين الأقلية، ممثلة بحزب الله، وبين إيران وسوريا، وطبيعة العلاقة بين السعودية والأكثرية، وعلى رأسها تيار المستقبل: إنها المصالح والتقاؤها، ولا شيء غير ذلك في النهاية. ولكن، قد يثور سؤال هنا وهو أن تضارب مصالح طائفي ـ سياسي، ممثلاً بإرب السياسة هناك، وممثلاً بتضارب المصالح الوطنية بين السعودية وإيران وسوريا، فما الذي حدث في الدوحة فجأة، بين الذين كانوا على شفا حفرة من الحرب الأهلية، فتألفت قلوبهم؟
الجواب ببساطة هو أن متغيرات جديدة طرأت على الساحة، فأعادت صياغة المصلحة الوطنية لكل طرف من أطراف اللعبة الإقليمية أولاً، فاتفاق الدوحة كان اتفاقاً بين القوى الثلاث المعنية، قبل أن يكون اتفاقاً لبنانياً صِرفاً. فالغزل الإيراني الأميركي الطارئ، وتطلع إيران إلى رئيس أميركي جديد، بسياسة خارجية مختلفة عن سياسة بوش ويمينه الجديد، واقتراب الاعتراف بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية، وبداية انحسار إيراني في الساحة العراقية، وتصريح راديو الجيش الإسرائيلي بأن بوش ينوي ضرب إيران، على الرغم من الغزل الجديد، كل هذه العوامل، في ظني، هي التي جعلت إيران تعيد التفكير في أين تكمن مصلحتها، وهي تكمن اليوم، وفق تصور جديد، في تهدئة الأوضاع في لبنان حتى يتبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من ناحية، ورسالة ضمنية إلى واشنطن، برئيسها الحالي وذاك القادم بعد أشهر وجيزة، بأنها قادرة على صنع الحرب وصنع السلام في لبنان، بل وفي المنطقة العربية عموماً، وما التغير في اتجاه حزب الله من المواجهة إلى المهادنة، إلا انعكاس للرؤية الإيرانية الجديدة نسبياً، وبالتالي فإن أوراق إيران في اللعبة قوية، ويجب الاعتراف بهذا الأمر من قِبل واشنطن، وبقية عواصم القرار في عالم اليوم. وبالنسبة لسوريا، فإنها موعودة بجائزة إسرائيلية تمنتها طوال الوقت، وخاصة من قِبل الرئيس بشار الأسد، الذي ينتظر إنجازاً يُحقق له شرعية خاصة به، بعيداً عن الشرعية الموروثة من الأسد الأب، ونقصد بذلك عودة هضبة الجولان كاملة إلى السيادة السورية، وها هي المفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة، وستكون مباشرة قريباً كما هو المتوقع، قائمة على قدم وساق، وليس بعيداً أن تخرج سوريا من قائمة الدول «المارقة»، فتطبع العلاقة بينها وبين لبنان، قبل أن يكون التطبيع سورياً إسرائيلياً، ولذلك فإن مصلحتها اليوم تقوم على تهدئة الوضع في لبنان حتى تتبين صورة ما هو قادم.
وبالنسبة للسعودية، فهي من الأساس مع هدوء الأوضاع في لبنان، خاصة إذا لم يُخل بالتوازن الطائفي هناك، وهو الأمر الذي تحقق في الدوحة، بعد أن التقت المصالح بين القوى الإقليمية الثلاث، وكان الوليد هو اتفاق الفرقاء في لبنان. لقد كان حزب الله وحلفاؤه من القوى السياسية اللبنانية الأخرى، وتيار المستقبل وحلفاؤه من القوى السياسية اللبنانية الأخرى، يتفاوضون في الدوحة، ولكن أطياف الرياض وطهران ودمشق كانت تحوم في الأفق هناك أيضاً، ومن هذا التداخل بين المحلي والإقليمي، يُمكن أن نكون، في تصوري المتواضع، حقيقة ما تم إنجازه في الدوحة، وهو إنجاز جدير بالإشادة والسرور، بغض النظر عن كيف تم، وهذا هو المهم.. هذا هو المهم..

نقلا عن جريدة “الشرق الأوسط” اللندنية