نشبت الصدامات العنيفة في بيروت فانتقل الشعور العام لدى اللبنانيين لإمكانية تحول الأزمة اللبنانية العالقة منذ شهور من حالة التجاذب السياسي البالغ أعلى درجات التوتر إلى نوع من الاقتحامات العنيفة والاقتتال الدموي الذي أنتج سقوط ضحايا وقتلى وجرحى، فماذا حدث لحظتها لذلك المزاد السياسي الذي بات يتاجر أولا بالأثاث وهو بيروت ليستعد أكثر لعرض البيت اللبناني برمته إلى المزاد السياسي، حيث تستعيد بيروت ولبنان برمتها ذاكرة الحرب الأهلية، ويستعد أطفال الأمس للدخول إلى عنف أهلي يسفك فيه دم اللبنانيين أنفسهم، بينما من يزايدون في سوق المزاد السياسي على شراء لبنان يجلسون وراء المقاعد.
وعادة من يذهبون للمزاد ليسوا هم المشترين الفعليين بقدر ما يمثلون واجهة للمشتري الحقيقي، فهو الذي يدفع الثمن لبضاعة قد لا تهمه أحيانا بقدر ما يحاول أن لا يتركها لملكية الغير إما تحديا أو شعورا منه ان تلك البضاعة تشكل قيمة تاريخية وسوقية، بينما لا يشكل الإنسان في ذلك المكان أي قيمة تذكر إلا قيمة سهلة للموت والانتحار.
بمثل هذا الشعور خرج الساسة اللبنانيون على شاشات التلفاز وهم يتراشقون بتهم متبادلة ليس جديد فيها إلا تكرار الاتهامات السابقة بل واستعادوا الجمل نفسها دون أن ترف لهم عين الحسرة على من يقاتلون نيابة عنهم كمشتري المزاد المختفي خلف الكواليس، فقد سقط الشباب الملثمون في الشوارع وتصاعدت الأدخنة من المقرات والبيوت معلنة نذر أيام سوداء مقبلة إن لم يسارع “أصحاب الحكمة”! للقبول بفكرة المقايضة والتسوية العادلة بين أطراف داخلية ترى في نفسها اليوم أنها تعيش شعور الاستفراد والخوف من الآخر بإقصائه مستقبلا، فلبنان بات رهينة للقوى الإقليمية أكثر من كونها مفردة سياسية هشة كعبارة “الشأن الداخلي” فهي ليست إلا دبلوماسية عاجلة تدفع بالحقيقة نحو ظلال الواقع المنهار في الساحة اللبنانية، إذ لم نر في عالم السياسة أن تصبح القوى الإقليمية مجرد مشاهد صغير وممثل ثانوي فوق مسرح الأحداث في صراع متداخل بين كل حلقاته المحلية والإقليمية والدولية.
فإذا ما كانت قطر وسوريا قادرتين على اتخاذ موقف من هذا القبيل فان إيران قبل أيام من الأزمة أزعجها كثيرا الموقف العراقي من حق الإمارات في الجزر، متناسية إيران ان العراق دولة عربية وعضو في الجامعة العربية والأمم المتحدة. فهل يعتبر موقف إيران غريبا وعجيبا للغاية دون مراعاتها لأبسط قواعد الدبلوماسية وحق الدول والشعوب التضامن والتأييد مع من تراه يناسبها وتنسجم معه، فقد عودتنا جمهورية إيران الإسلامية على تدخلها المباشر وغير المباشر في العراق ولبنان ومحطات أخرى من هذا العالم تحت حجة كونها تسند حق الشعوب تارة وتارة أخرى تسند الدول الإسلامية وغيرها من الحجج الواهية.
فهل ننتظر مواقف أخرى في المزاد اللبناني يتحرك بسرعة لعرض أسعاره وقيمته في الوقت ذاته، فقد وجدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وفرنسا نفسها منزعجة إلى حد الإسراع في التعبير عن رغبتها بأن ما يحدث في لبنان لن تصمت عنه.
وكأنما الرسائل المرسلة للصغار الذين يتراشقون في بيروت برصاصهم لا يدركون ان الساحة اللبنانية مجرد امتحان صيفي ولعبة جديدة لصراع قادم بين قوى إقليمية ودولية يدفع لبنان فيها ثمنا باهظا، ومن يتصورون ان الخلافات الداخلية مجرد شأن داخلي فان من يصبون الملايين والأسلحة في الشأن اللبناني هم المشترون الحقيقيون للبيت والأثاث اللبناني، فهناك تطور خطير بدأ يدق أجراسه بعد أن حدث اقتحام مسلح على أمكنة إعلامية حاول كل طرف توجيه اتهامات مختلفة، كما هي اتهامات شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله، ومن يمسها ستقطع يده! فهل بالإمكان التفاوض بين أطراف انتقلت من مرحلة التوتر إلى مرحلة الصدام والكراهية؟! ومن يتوهم ان الجيش سيكون العلاج والحل في مزاد غاب فيه قانون البصيرة فان من يدفعون أسعار النفط والسلاح يرون ان الصراع ليس لبنانيا – لبنانيا، فمساحته تنتقل من بيروت إلى لبنان ومن ثم إلى منطقة أوسع، فماذا ستفعل القوى الكبرى وإسرائيل وهي تنتظر فرصة تاريخية للانقضاض أو المساومة والتسوية على صراع الشرق الأوسط؟
صحيفة الايام
20 مايو 2008