المنشور

عندما تَطْعِن «المقاومة» اللبنانية ظهرَها

حينما ظهر السيد حسن نصرالله، أقوى اللاعبين السياسيين اللبنانيين، على شاشات الفضائيات عصر يوم الخميس ما قبل الماضي 8 مايو/ أيار الجاري، بدأً الحديث بنبرة واطئة وهدوء بَيّن، متحكما في انفعالاته وعواطفه مبدياً رباطة جأش واضحة وغير اعتيادية، شعرتُ أن المسألة غير عادية وان هذا الهدوء الظاهري ما هو إلا الشروع في عملٍ حاسمٍ يتجاوز كل التوقعات.
وقد صدق ظنّي حين خرج عن المألوف والنبرة الهادئة، مهدداً بتطبيق بقطع اليد (كلمة السر)، معلنا عن بِدء مرحلة جديدة، مطلقاً العنان لميليشياته المدجّجة بالسلاح للسيطرة على شوارع بيروت وزواريبها لتنفيذ محاولة انقلابية «حماسية»، أُريد لها أن تكون غير مكتملة (أشبه بعملية انتحارية) تجسّدت أساسا في ضرب مرتكزات الحريات المدنية والمراكز الإعلامية.
وتراءى، لبُرهة دامت 48 ساعة، لتلك الميليشيات الزاحفة أنهم وحدهم سادة الميدان في بيروت وكل لبنان وذلك بعد انسحاب مسلحي قوات «الموالاة» من المعركة وظهورهم بمظهر الخاسرين، المسالمين والضحايا العزّل المحتاجين للشفقة والعطف. ولعل الأغرب هو موقف الجيش اللبناني وقائده العماد ميشال سليمان، مرشح رئاسة الجمهورية الوحيد، الذي سمح لعبث ميليشيات ‘حزب الله’ وحركة ‘أمل’ والحزب القومي السوري، في مختلف الأماكن اللبنانية للوصول إلى الذروة ونشوة النصر. بدا في تردده وكأنه شريك لقوات حزب الله، إن لم يكن حرصا منه على وحدة الجيش وخوفا من أي انقسام في صفوفه. والسؤال الآن هل كان هناك فخّ نصب للمعارضة ولحزب الله بالذات ومخطط جهنمي نُسج بدقة؟. هذا ما لا يمكن تأكيده ولو أن المؤشرات توحي بذلك. أم أن المسألة أبسط من ذلك ولا توجد حاجة لإطلاق العنان للخيال و’فَبْركة’ شيء غير موجود أصلا في الواقع.
ما إن طافت الساعات الـ48 الصعبة، حتى قلتُ في سري إن السكرة قد تبخرت وغداً تأتي الفكرة، وها هي تجليات الفكرة وتداعياتها قد اتسعت. نرى الآن كيف استعادت أطراف الموالاة، بسندٍ قويّ من مؤيديهم الإقليميين والدوليين، المبادرة بهجوم إعلامي كاسح، حيث إن الخاسر على الأرض في الأيام العصيبة الماضية بات الآن وكأنه الرابح الأكبر عبر الفضائيات والأرضيات.
خاض حزب الله بطولات كثيرة في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونال سمعة عظيمة ليس بين مؤيديه الأقربين بل حتى من أبعد الأبعدين بما فيهم شريحة لا بأس بها من الرأي العام الغربي. في خضم نضاله المقاوم، ارتكب حزب الله اللبناني بالطبع بعضاً من الأخطاء من فترة لأخرى لكن التاريخ سيجلده هذه المرة حين قام بعملية حمقاء تتسم بالمغامرة والرعونة والانفلات والهيجان العاطفيين، لم تتجسد في الاعتداء على البيوت الآمنة للمواطنين فحسب بل سمح لنفسه للاستيلاء وحرق مراكز تمثل الرأي وحرية الكلمة، التي تعتبر مقدسة بالنسبة للشعب اللبناني. وكما قال آينشتاين يوما إن «الأحمق يكرر نفس الأخطاء آملاً الحصول على نتائج مختلفة».
لقد جرّد حزب الله نفسه من سرّ قوته، طعن نفسه ومؤيديه في الظهر وقطع يد ظهيره من حيث لا يدري ممرغاً سلاح المقاومة في الوحل، وفقد كل أوراقه الأساس المتمثلة في مقاومة العدو الخارجي الإسرائيلي بشرط أن لا يشهر مسدسا واحداً على أي مواطن في الداخل، وذلك لأن المقاومة لا تستمر ولا تستقوي إلا بتأييد الرأي العام والمواطنين العاديين وها هي ‘هالة’ المقاومة قد تلطخت ببقع لا تزيلها التطمينات مرة أخرى. فالصورة المثالية والمقدسة لشرف المقاومة قد اهتزت في أذهان الألوف المؤلفة من المواطنين والرأي العام المحلي والعربي والدولي. يبدأ الآن العد العكسي لطرح مسألة تجريد حزب الله والآخرين جميعهم من سلاحهم. ولعل الطامة الكبرى أن النظام العربي الرسمي المشهود له باستبداده بشعوبه بدا الآن وكأنه المنقذ للديمقراطية في لبنان.
وأكاد اتفق مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من أن مرحلة جديدة قد بدأت بالفعل، ولكن من منظور آخر تماما، بسبب أن قطب ما يسمى بالموالاة سيكون في وضع هجومي وقطب المعارضة وخاصة حزب الله في وضع دفاعي. ولو أن المسألة أو المرحلة القادمة لا تجري سلساً كما يبدو لأي من طرفي المعادلة في الوقت الحاضر، ومرد ذلك التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية التي التقت وتضاربت مصالحها المتناقضة في شرق المتوسط وتكثفت كلها في الساحة اللبنانية.

صحيفة الوقت
18 مايو 2008