المنشور

ضمير أكثر من متحجر‮.. ‬إنه متواطئ

ماذا لو أن قذيفة الدبابة الإسرائيلية التي‮ ‬اخترقت منزل عائلة‮ ‘‬أبو عتيق‮’ ‬وقتلت أربعة أطفال أشقاء‮: ‬صالح‮ (‬4‮ ‬أعوام‮) ‬وهناء‮ (‬5‮ ‬أعوام‮) ‬وردنية‮ (6 ‬أعوام‮) ‬والرضيع مصعب‮ (‬عام واحد‮)‬،‮ ‬ووالدتهم ميسَّر التي‮ ‬كانت انتهت للتو من إعداد وجبة الفطور لهم‮ ‬‭-‬‮ ‬ماذا لو أن هذه القذيفة لم تكن إسرائيلية،‮ ‬عربية مثلاً،‮ ‬والضحايا ليسوا عرباً‮ ‬فلسطينيين،‮ ‬وإنما‮ ‬غربيين مثلاً؟
‮… ‬ماذا لو أن الذين قضوا من الفلسطينيين نتيجة عدم توفر الدواء بسبب الحصار الإسرائيلي‮ ‬المحكم المضروب على سكان قطاع‮ ‬غزة‮ (‬5‭,‬1‮ ‬مليون نسمة‮) ‬وعددهم‮ ‬134‮ ‬مريضاً‮ ‬‭-‬‮ ‬ماذا لو كان بينهم مريض‮ ‬غربي‮ (‬بشرط ألا‮ ‬يكون المتسبب إسرائيل وإلا بطلت الفرضية)؟
ويمكن للمرء أن‮ ‬يستطرد في‮ ‬سرد مثل هذه الفرضيات المؤسسة تأسيساً‮ ‬واقعياً‮ ‬متيناً‮ ‬قاعدته‮ ‘‬الخزين‮’ ‬المتجدد للجرائم والفضائح الأخلاقية الإسرائيلية المدوية‮. ‬إنما عينة منها تكفي‮ ‬للإيفاء بغرضها وهو مواجهة العقل والضمير الغربيين ومساءلتهما أخلاقياً‮ ‬أمام التاريخ،‮ ‬وهما اللذان ما انفكا‮ ‬يتبجحان ليل نهار بمعزوفة حقوق الإنسان التي‮ ‬يدعيان ملكيتها حصرياً،‮ ‬ناهيك عن الوصاية عليها‮.‬
لا نشك للحظة لو أن واحداً‮ ‬بالمائة من المحرقة‮ (‬بحسب تعبير نائب وزير الدفاع الإسرائيلي‮ ‬في‮ ‬توصيفه لما تفعله حكومته بسكان‮ ‬غزة‮) التي يتعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني‮ ‬في‮ ‬قطاع‮ ‬غزة،‮ ‬أصاب مجموعة صغيرة لا تتعدى العشرات من الأوروبيين أو الأمريكيين،‮ ‬أننا كنا شهدنا رد فعل مغايراً‮ ‬تماماً‮ ‬للسكوت واللامبالاة اللذين‮ ‬يميزان موقف الغرب عموماً‮ ‬من جريمة الخنق الجماعي‮ ‬التي‮ ‬ترتكبها إسرائيل ضد سكان‮ ‬غزة‮.‬
ولعلنا نتذكر هنا قصة السفينة اكيلي‮ ‬لاورو التي‮ ‬اختطفتها منتصف الثمانينيات مجموعة من نشطاء جبهة التحرير العربية التي‮ ‬كان‮ ‬يتزعمها أبو العباس،‮ ‬وهو فصيل فلسطيني‮ ‬عرف بتوجهاته البعثية العراقية‮. ‬يومها أسفرت تلك العملية عن وفاة رجل عجوز أمريكي‮. ‬بيد أن هذه الضحية اليتيمة كانت كافية لإطلاق صفارات الإنذار في‮ ‬الإعلام الغربي‮ ‬وتوجيه وتسليط الأضواء صوب‮ ‘‬الإرهاب‮’ ‬الفلسطيني‮ ‬وإطلاق شرارة الثأر للضحية،‮ ‬وهو ما تحقق لهم بعد نيف وعشرين عاماً‮ ‬عندما احتلت القوات الأمريكية العراق في‮ ‬2003‮ ‬وألقت القبض على زعيم جبهة التحرير العربية أبو العباس وأخضعته لظروف اعتقال لا‮ ‬يمكن إلا أن تنتهي‮ ‬بالموت لا محالة،‮ ‬لم تُمَكَّن خلالها ذويه من زيارته ولا من معاينته ومعالجته طبياً‮ ‬من المرض العضال الذي‮ ‬كان‮ ‬يعانيه‮. ‬فتركته‮ ‬يعاني‮ ‬في‮ ‬زنزانته إلى أن وافته المنية هناك‮.‬
هذه الشيزوفرانيا‮ (‬ازدواجية الشخصية‮) ‬التي‮ ‬يُظهرها المشتغلون والمتمرسون في‮ ‬عالم السياسة والدبلوماسية من المنتمين للطبقة الغربية الحاكمة،‮ ‬منذ مطلع القرن العشرين الماضي،‮ ‬هل تمكن نسبتها إلى أوساط تلك النخبة الأوروبية التي‮ ‬أنجبت تلك الكوكبة من عظماء فلاسفة ومفكري‮ ‬عصر النهضة الذين وضعوا الأساس الحقوقي‮ ‬والتحرري‮ ‬للمجتمعات الأوروبية المعاصرة؟
ليس هنالك ما‮ ‬يبعث على الاعتقاد بذلك‮.‬
الأرجح أن هذه‮ ‘‬الأوروبا‮’ ‬في‮ ‬حلتها‮ ‘‬المعاصرة‮’ (‬ذات الإحدى وعشرين مئويةً‮) ‬ليست وريثة عصر النهضة وحده‮ ‬‭(‬Renaissance‭)‬،‮ ‬بكل ما حفل به من نزعات تنويرية ورومانسية وإنسانية،‮ ‬وإنما هي‮ ‬خلاصة عملية إعادة الاصطفافات الفكرية والفلسفية التي‮ ‬شهدتها القارة الأوروبية منذ نهاية القرن التاسع عشر وعلى مدى القرن العشرين المنصرم،‮ ‬لصالح المذاهب والاتجاهات الفلسفية الحداثية،‮ ‬النازعة نحو النفعية والتجريد البراغماتي،‮ ‬والتي‮ ‬علا كعبها بفضل صعود الرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية مع توالد المصارف وقيام المؤسسات التمويلية المختلفة، ‬واتحاد هذين العملاقين‮ (‬رأس المال والصناعة‮) ‬فيما عرف بعد ذلك بالرأسمالية الاوليغارشية التي‮ ‬نجحت في‮ ‬تأمين كامل سيطرتها على مسارات التقدم الاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬والثقافي‮.‬
وحتى المشيخة الفكرية التي‮ ‬وضعت في‮ ‬ما بعد الأسس النظرية والأيديولوجية للنظام الرأسمالي‮ ‬المعاصر والتي‮ ‬مازالت تمد النظام إلى اليوم بدماء جديدة منعشة،‮ ‬ليست مقطوعة الصلة عن مورث القرون الأخيرة من المذاهب والنظريات الفلسفية المتمحورة حول مذهب الغاية تبرر الوسيلة الميكافيلي‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يتسع للبعد الإنساني‮ ‬في‮ ‬بناء وإدارة وتشكيل وإعادة تشكيل المجتمعات‮.‬
ولذلك عندما‮ ‬ينظر المرء اليوم إلى الهيكل المؤسسي‮ ‬للنظام الدولي‮ ‬وضمنه منظمة الأمم المتحدة باعتبارها إنجازاً‮ ‬رائعاً‮ ‬للأسرة الدولية بما تمثله من مبادئ مسطرة في‮ ‬ميثاقها وفي‮ ‬مقدمها حماية السلم العالمي‮ ‬والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان المدنية والاجتماعية عبر العالم وتكريس ثقافة التعاون الدولي‮ ‬متعدد الأطراف،‮ ‬فإنه لا شك سيحار في‮ ‬هذا اللبس الإشكالي‮.‬
إلا أنه لو أمعن النظر وتفكر ملياً‮ ‬فسوف‮ ‬يجد أن إنشاء الأمم المتحدة جاء نتيجة ولادة عسيرة أملتها ظروف نشوء وتمكن فكر تدميري‮ ‬هو الفكر النازي‮ ‬الذي‮ ‬كاد‮ ‬يستولي‮ ‬على العالم ويحيله إلى روما العبودية‮.‬
ولذلك أيضاً‮ ‬لم‮ ‬يعد الغرب‮ ‬يعير كثير اهتمام للأمم المتحدة‮ (‬باستثناء مجلس الأمن الذي‮ ‬يشكل عمودها الفقري‮ ‬ويتحكم في‮ ‬مسارها‮)‬،‮ ‬وهو ما‮ ‬يجد تفسيره في‮ ‬الإتيان بشخوص‮ ‬يفتقرون إلى ملكات القيادة الناجعة الحازمة والشجاعة،‮ ‬لتولي‮ ‬مهام رئاسة أمانتها العامة وقيادتها وسط بحر من تلاطم وتضارب المصالح،‮ ‬كما هي‮ ‬الحال بالنسبة للأمين العام الحالي‮ ‬الكوري‮ ‬الجنوبي‮ ‬بان جي‮ ‬مون وقبله الغاني‮ ‬كوفي‮ ‬أنان‮.‬
فالأمين العام الحالي‮ ‬مثلاً‮ ‬تراه‮ ‬يفزع ويتحمس أشد الحماس لنفرة الغرب في‮ ‬دار فور ولا‮ ‬يتردد في‮ ‬زيارة السودان والتوجه من هناك إلى دار فور لتفقد أحوال السكان‮. ‬فيما‮ ‬يظهر بؤسه وضآلته وهو‮ ‬يستنكف عن التوجه إلى قطاع‮ ‬غزة لمعاينة المحرقة الحقيقية التي‮ ‬هو أجبن من مجرد التأشير عليها‮!‬
على أن الجانب الإداري‮ ‬ليس هو التجسيد الوحيد للامبالاة الغربية بالمنظمة،‮ ‬فهنالك القرارات الصادرة عنها بشأن القضية الفلسطينية وخاصة قرارات‮ ‬242‮ ‬و338‮ ‬و194‮ ‬التي‮ ‬بقيت حبيسة أدراجها منذ اتخاذها قبل عشرات السنين،‮ ‬فقط لأن الأمريكيين والأوروبيين‮ ‬يقفون بالمرصاد أمام تنفيذها‮.‬
الأمر بطبيعة الحال‮ ‬يختلف في‮ ‬ما‮ ‬يتعلق بالقوى الاجتماعية الغربية الواقعة خارج سلطة ومؤسسات النظام الرأسمالي،‮ ‬خصوصاً‮ ‬تلك المنتظمة في‮ ‬إطار منظمات المجتمع المدني‮ ‬التي‮ ‬يلعب كثير منها أدواراً‮ ‬مشرفة في‮ ‬مجالات الحريات وحقوق الإنسان على الصعيد العالمي،‮ ‬تتطابق مع مناقبيات المذاهب الفلسفية الإيجابية الغربية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر‮.‬
 
صحيفة الوطن
17 مايو 2008