المنشور

العقلانية والعمران‮.. ‬هل‮ ‬من توازن في‮ ‬الزمن العاقر؟‮ »‬2‮/‬2‮«‬

لقد دخل العمران مجال السياسة،‮ ‬وأول من أدخل كلمة العمران ابن خلدون،‮ ‬وتعني‮ ‬في‮ ‬لغة الحداثة البنى الاجتماعية،‮ ‬وفي‮ ‬لغة السياسة‮: ‘من ‬يملك من العمران أكثر‮ ‬يسوس أكثر ويساوم أكثر وأكثر‮’. ‬العولمة حولت الكرة الأرضية إلى‮ ‬غرفة صغيرة وحولت الغرفة إلى نملة وحولت النملة إلى ذرة تحتاج إلى ميكروسكوب إلكتروني‮ ‬مقدار تكبيره خمسة آلاف مرة كي‮ ‬تراها‮. ‬
الأمكنة الآن هجرت أصحابها كما هجرت الناس الأمكنة،‮ ‬يتذكر المرء نفسه،‮ ‬ومنذ فترة وجيزة كيف كان‮ ‬يجلس على عتبة داره من الخارج ويراقب المارة،‮ ‬وربما‮ ‬يضع البذور في‮ ‬صحن ويتسلى بأكله ويسلم على كل من‮ ‬يمر عليه،‮ ‬كيف كان‮ ‬يملك تلك العتبة ويجلس بحرية‮. ‬لكن الآن أصبح الوضع مختلفاً‮.. ‬الإنسان‮ ‬يحلم بشقة مغلقة النوافذ والأبواب‮ ‬يسمع طنين جاره ويشم رائحة السجاير المتطايرة على رغم ضيق المكان‮. ‬40‮ ‬
ألف دينار قرض شراء سكن متوفر من الناحية الراقية لكنه‮ ‬يبدو وكأن‮ ‬40‮ ‬ألف فلس تتحول إلى افتراضية‮! ‬والبركة ترجع إلى انخفاض الدولار الأمريكي‮ ‬الذي‮ ‬أكرمنا من فضله ومن فضل من ربط عملتنا به إلى‮ ‬يوم القيامة،‮ ‬40‮ ‬ألف دينار أصبحت في‮ ‬زمن العولمة دريهمات‮ ‬يشتكي‮ ‬الناس من ثقلها وكأنها كابوس‮ ‬يلاحق الشباب في‮ ‬المنام وفي‮ ‬اليقظة كابوس لأنها لا تغطي‮ ‬نفقات البناء،‮ ‬تحول القرض إلى مشكلة بدلاً‮ ‬من كونه‮ ‬يحل المشكلة،‮ ‬بناء منزل تحول إلى ترف من الأمنيات والأدعية والأحلام ترافق الإنسان إلى القبر،‮ ‬اللهم‮ ‘‬أسكنه من ضيق القبور إلى سعة الدور والقصور‮’. ‬لهذا‮ ‬يكثر الخيال والسحر والشعوذة في‮ ‬العالم الثالث ويتبعها الغاوون من كل مكان كما تقول الآية‮ ‘‬الشعراء‮ ‬يتبعهم الغاوون‮’‬،‮ ‬لقد حقق السماسرة والمعماريون نبوءة ماركس وأصبحت الفوارق الطبقية حقيقة لا مفر منها‮. ‬
لم تكن هذه الفوارق محسوسة إلا في‮ ‬الشعر والنثر واللوحات ولكنها أصبحت متجسدة عملياً‮ ‬نتناولها مع كل وجبة سواء في‮ ‬الصحافة اليومية مع إشراقة كل شمس أو نتناولها في‮ ‬أحاديث المجالس‮. ‬المجتمعات التي‮ ‬ما فتئت تحبو وتحبو،‮ ‬أصبحت تزحف على بطنها،‮ ‬لقد صودر منها العريش وصودرت الساقية والزريبة،‮ ‬صودرت حتى الدهاليز‮ ‘‬والطيارة‮’ (‬فضاء صغير مغطى بالخوص‮) ‬والبرستج والحوش،‮ ‬والسؤال‮ ‬يبقى معلقاً ‬كمعلقات الكعبة‮: ‬كيف نخلق التوازن المطلوب؟ كيف نعيش على أرض واحدة؟ كيف نوزع الثروة؟ كيف‮ ‬يحترم الصغير الكبير؟ كيف نحافظ على عقولنا من التدمير والمصادرة؟ نحن بحاجة إلى عقلانية وعقلاء في‮ ‬خلق مجتمع متكافئ متوازن‮.
‬نحتاج إلى من‮ ‬يفكر في‮ ‬بناء مجتمعات‮ ‬يسودها التضامن‮. ‬لسنا بحاجة إلى عائلة ماكندوا في‮ ‬أمريكا اللاتينية التي‮ ‬تحدث عنها‮ ‬غابريل ماركيز في ‬قصة‮ ‘‬مائة عام من العزلة‮’ ‬وهي‮ ‬قصة قال عنها إنها حقيقية لعائلة عاشت عزلة عن مجتمعها تحلم بعيداً‮ ‬عن الواقع إلى أن جاءها طوفان وحصدها‮. ‬إنه التناقض مع النفس والضمير على رغم تقدم الزمن‮. ‬وعلى رغم الإنجاز العظيم الذي‮ ‬تحقق بفضل التطور الهندسي‮ ‬إلا أنها أصبحت حمى بغيضة كونها تجاوز عن الواقع وتعال لا‮ ‬يصدق،‮ ‬تتطابق تماماً‮ ‬مع عجرفة الشركات العولمية‮.
‬نعم،‮ ‬إن الإنجاز المعماري‮ ‬الشاهق‮ ‬يتناقض مع نفسه بدأ متأخراً‮ ‬مع بداية العام‮ ‬1930‮ ‬في‮ ‬نيويورك،‮ ‬ثم انتشر في‮ ‬أنحاء العالم الذي‮ ‬يسير في ‬طريق صناعة السياحة والتجارة الذي‮ ‘‬يحسبه الظامئ ماءً‮’. ‬يقول تيري‮ ‬وهو فيلسوف في‮ ‬العمران المدني‮: ‘‬لقد شيد أول مبنى مرتفع في ‬نيويورك العام‮ ‬‭.‬1848‮ ‬وبات تعبيراً‮ ‬بامتياز عن الرأسمالية‮’. ‬لكن في‮ ‬البحرين لا توجد رأسمالية بل رأسماليون ومع زحف الحداثة بات العمران تعبيراً‮ ‬عن الحرمان‮.‬

صحيفة الوطن
17 مايو 2008