لقد دخل العمران مجال السياسة، وأول من أدخل كلمة العمران ابن خلدون، وتعني في لغة الحداثة البنى الاجتماعية، وفي لغة السياسة: ‘من يملك من العمران أكثر يسوس أكثر ويساوم أكثر وأكثر’. العولمة حولت الكرة الأرضية إلى غرفة صغيرة وحولت الغرفة إلى نملة وحولت النملة إلى ذرة تحتاج إلى ميكروسكوب إلكتروني مقدار تكبيره خمسة آلاف مرة كي تراها.
الأمكنة الآن هجرت أصحابها كما هجرت الناس الأمكنة، يتذكر المرء نفسه، ومنذ فترة وجيزة كيف كان يجلس على عتبة داره من الخارج ويراقب المارة، وربما يضع البذور في صحن ويتسلى بأكله ويسلم على كل من يمر عليه، كيف كان يملك تلك العتبة ويجلس بحرية. لكن الآن أصبح الوضع مختلفاً.. الإنسان يحلم بشقة مغلقة النوافذ والأبواب يسمع طنين جاره ويشم رائحة السجاير المتطايرة على رغم ضيق المكان. 40
ألف دينار قرض شراء سكن متوفر من الناحية الراقية لكنه يبدو وكأن 40 ألف فلس تتحول إلى افتراضية! والبركة ترجع إلى انخفاض الدولار الأمريكي الذي أكرمنا من فضله ومن فضل من ربط عملتنا به إلى يوم القيامة، 40 ألف دينار أصبحت في زمن العولمة دريهمات يشتكي الناس من ثقلها وكأنها كابوس يلاحق الشباب في المنام وفي اليقظة كابوس لأنها لا تغطي نفقات البناء، تحول القرض إلى مشكلة بدلاً من كونه يحل المشكلة، بناء منزل تحول إلى ترف من الأمنيات والأدعية والأحلام ترافق الإنسان إلى القبر، اللهم ‘أسكنه من ضيق القبور إلى سعة الدور والقصور’. لهذا يكثر الخيال والسحر والشعوذة في العالم الثالث ويتبعها الغاوون من كل مكان كما تقول الآية ‘الشعراء يتبعهم الغاوون’، لقد حقق السماسرة والمعماريون نبوءة ماركس وأصبحت الفوارق الطبقية حقيقة لا مفر منها.
لم تكن هذه الفوارق محسوسة إلا في الشعر والنثر واللوحات ولكنها أصبحت متجسدة عملياً نتناولها مع كل وجبة سواء في الصحافة اليومية مع إشراقة كل شمس أو نتناولها في أحاديث المجالس. المجتمعات التي ما فتئت تحبو وتحبو، أصبحت تزحف على بطنها، لقد صودر منها العريش وصودرت الساقية والزريبة، صودرت حتى الدهاليز ‘والطيارة’ (فضاء صغير مغطى بالخوص) والبرستج والحوش، والسؤال يبقى معلقاً كمعلقات الكعبة: كيف نخلق التوازن المطلوب؟ كيف نعيش على أرض واحدة؟ كيف نوزع الثروة؟ كيف يحترم الصغير الكبير؟ كيف نحافظ على عقولنا من التدمير والمصادرة؟ نحن بحاجة إلى عقلانية وعقلاء في خلق مجتمع متكافئ متوازن.
نحتاج إلى من يفكر في بناء مجتمعات يسودها التضامن. لسنا بحاجة إلى عائلة ماكندوا في أمريكا اللاتينية التي تحدث عنها غابريل ماركيز في قصة ‘مائة عام من العزلة’ وهي قصة قال عنها إنها حقيقية لعائلة عاشت عزلة عن مجتمعها تحلم بعيداً عن الواقع إلى أن جاءها طوفان وحصدها. إنه التناقض مع النفس والضمير على رغم تقدم الزمن. وعلى رغم الإنجاز العظيم الذي تحقق بفضل التطور الهندسي إلا أنها أصبحت حمى بغيضة كونها تجاوز عن الواقع وتعال لا يصدق، تتطابق تماماً مع عجرفة الشركات العولمية.
نعم، إن الإنجاز المعماري الشاهق يتناقض مع نفسه بدأ متأخراً مع بداية العام 1930 في نيويورك، ثم انتشر في أنحاء العالم الذي يسير في طريق صناعة السياحة والتجارة الذي ‘يحسبه الظامئ ماءً’. يقول تيري وهو فيلسوف في العمران المدني: ‘لقد شيد أول مبنى مرتفع في نيويورك العام .1848 وبات تعبيراً بامتياز عن الرأسمالية’. لكن في البحرين لا توجد رأسمالية بل رأسماليون ومع زحف الحداثة بات العمران تعبيراً عن الحرمان.
صحيفة الوطن
17 مايو 2008