المنشور

النكبة والوعي القومي

بالرغم مما هو ثابت أن جذور وبدايات الوعي القومي العربي المعاصر تعود الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي تتجلى في كتابات وجهود طائفة من رواد النهضة العربية، فإن هذا الوعي لم يتبلور وينتشر بين صفوف اوسع فئات الشعوب العربية وقواها السياسية إلا مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين أي منذ غداة نكبة 1948م مباشرة.
نعم ثمة نهوض قومي وثمة تبلور للوعي القومي نجده خلال النصف الأول من القرن العشرين وقد عبر عن نفسه بوجه خاص في اشكال التضامن مع قضية الشعب قبل ان تبلغ ذروة مأساته في مايو 1948م مع اغتصاب وطنه وتشريد الجزء الاعظم من ابنائه، كما عبر عن نفسه في الدعوات الى الوحدة العربية والتي كان لها الاثر البالغ في الضغوط على الانظمة العربية السائدة حينذاك بالاستجابة الى تلك الدعوات الشعبية والسياسية الى صيغة اقل من الوحدة السياسية تتمثل في اقامة جامعة الدول العربية ثم في دخول جيوش دولها فلسطين لنصرة شعبها خلال حرب .48 لكن كل اشكال ذلك النهوض والوعي القوميين على الصعيدين الشعبي والرسمي كانت اشكالا جنينية ولم تتبلور وتتسع كما تبلورت واتسعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين والذي أعقب النكبة مباشرة.
ويمكن القول ان نكبة فلسطين 1948م كانت عاملا مغذيا ومفجرا للوعي القومي سواء فيما بين معظم القوى والحركات السياسية العربية وبضمنها حتى تلك التي تنتمي الى تيارات ذات طابع اممي يساري او ذات طابع “اممي اسلامي” اذا جاز القول، ام فيما بين اوسع الجماهير العربية، صحيح ان كلا هذين التيارين وبدرجات متفاوتة حاولا ان يميزا نفسيهما عن الفكر القومي العريض لكن كلاهما تأثرا بدرجات متفاوتة بالافكار القومية ولم يستطيعا نفيها او الانعزال عنها كلية وان كان التأثير المتبادل بين التيار القومي من جهة والتيار اليساري اكثر مما هو بين كليهما من جهة والتيار الاسلامي العريض من جهة اخرى.
ولعل الظهور والنهوض العارم للأحزاب والحركات القومية العربية خلال خمسينيات القرن الماضي ساهم بدور محوري كبير في نشر الفكر والوعي القومي جنباً الى جنب مع قيام انظمة قومية خلال الخمسينيات والستينيات وعلى الاخص نظام ثورة 23 يوليو بقيادة الرئيس المصري والزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر. ويمكن القول ان ثورة يوليو وحركة القوميين العرب كان لهما نصيب الاسد في نشر وبلورة الفكر والوعي القومي العربي على اوسع نطاق من الوطن العربي. وقد تجسد هذا الدور على نحو خاص في قيام اول وحدة اندماجية في تاريخ العرب الحديث وذلك بين مصر وسوريا عام 1958م. لقد كان عقدا الخمسينيات والستينيات هما بامتياز ذروة صعود المد القومي، في حين ومنذ نكسة يونيو 1967م، وعلى الاخص منذ وفاة الزعيم القومي الراحل جمال عبدالناصر بعد ثلاث سنوات من النكسة، بدأ تدريجياً افول وانحسار هذا المد القومي حتى بلغ ما بلغه على النحو المأساوي المريع الذي نتابع فصوله على امتداد اربعة عقود تقريباً.
بطبيعة الحال ثمة عوامل عديدة موضوعية وذاتية لهذا الانكسار القومي ليس هنا موضع تناولها وان كان من المهم التأكيد ان العامل الديمقراطي يأتي في مقدمتها، إلا انه يمكن القول ان العرب مهما اغتربوا عن وعيهم القومي، حركات وشعوباً، لن يستطيعوا التخلص منه. فهو كامن في اللاشعور سواء لدى الحركات والقوى السياسية التي تنفي شكلاً ومضموناً وجود شعور ووعي قومي مشترك بين العرب، كالقوى الاسلامية واغلب القوى اليسارية، ام لدى القوى التي هجرت هويتها القومية جملة وتفصيلاً واستبدلتها بهويات ليبرالية او يسارية موغلة في اغترابها الاممي. بيد ان كمون هذا الوعي في المرحلة الانكسارية الراهنة، سواء في اللاشعور او في مظاهر التباسه بأفكار او ايديولوجيات اخرى، وعدم قدرة العرب على التخلص من هذا الشعور – الوعي الملازم لهم لا يعني البتة أنه سيتفجر من جديد من تلقاء نفسه مرة اخرى، وذلك ما لم تتمكن القوى والحركات السياسية العربية، وعلى وجه التحديد الوطنية والقومية، من اعادة بناء نفسها ومعالجة كل العوامل التي أفضت الى تراجع المد القومي العربي وانكسار المشروع القومي. لقد شهد التاريخ العربي المعاصر مفارقة نادرة لم تشهد مثلها امة من الامم او شعب من الشعوب في الهزائم التي تعرض لها.
فلم تعرف امة من الامم هذا التداعي والتأثر البالغ لهزيمة شعب من شعوبها كما عرفت الامة العربية تجاه هزيمة 1948م المعروفة بـ “النكبة” والتي لعبت بعدئذ كما ذكرنا دوراً محفزاً في تغذية الوعي القومي وتناميه، وكانت على الدوام عاملاً رئيسياً من عوامل التناقضات والصدامات بين شعوب هذه الامة وانظمتها السياسية وسبباً من الاسباب الاساسية لثوراتها وانتفاضاتها على تلك الانظمة، بنفس قوة الاسباب الاساسية الداخلية من سياسية واقتصادية واجتماعية التي دفعتها الى الثورة (ثورتا يوليو/ تموز المصرية والعراقية ابرز شاهد على ذلك).
وما هذه المفارقة الا اكبر دليل على قوة الشعور القومي سواء المتبلور ام الملتبس والكامن في الوعي لدى كل الشعوب العربية والذي لا نجد ما يضاهيه قوة لدى هذه الشعوب ذاتها تجاه كل قضايا العالم، وبضمنها قضايا الشعوب الاسلامية وان بدرجات متفاوتة. وعلى العكس من ذلك جاءت هزيمة 1967م المعروفة بـ “النكسة” لتسهم في تراجع وانكماش المد القومي وما ذلك الا بسبب صدمة الجماهير العربية واحباطها من غروب المشروع القومي وهي الجماهير التي مازالت تنتظر من ينتشلها من محنتها المديدة ليضعها على سكة الخلاص الحقيقية التي تستعيد من خلالها وعيها القومي الذي طال اغترابها عنه بفعل اخفاق الحركات القومية واليسارية معاً.

صحيفة اخبار الخليج
17 مايو 2008