­

المنشور

الأنامل الناعمة

سأقرأ عليكم هذا النص الوجداني‮ ‬الجميل أولاً‮:  “‬أخذت قطعة قماش ناعمة،‮ ‬حريراً‮ ‬أبيض متورداً‮ ‬نقياً‮ ‬كالجليد،‮ ‬صنعت لك مروحة من الوئام والفرح،‮ ‬مستديرة كالبدر المطل،‮ ‬تتموج في‮ ‬كُميك سيدي،‮ ‬يمكنك الآن هفها،‮ ‬إثارة هبة باردة،‮ ‬غير أني‮ ‬أخشى الخريف إن أتى،‮ ‬وشتت القيظ هفيفاته الباردة،‮ ‬أن توصد عليها في‮ ‬صندوق قصب،‮ ‬وفي‮ ‬منتصف الطريق‮ ‬يذوي‮ ‬حبك لها”.‬ لعلكم خمنتم ان النص كتبته امرأة‮. ‬هذا واضح من ذلك الوهج الذي‮ ‬يثيره اشتعال الكلمات التي‮ ‬تفيض بالمشاعر،‮ ‬والمرأة التي‮ ‬كتبت هذا النص هي‮ ‬من بلد بعيد‮ ‬يثير في‮ ‬نفوسنا الفضول والدهشة، ‬من بلد كبير مترامي‮ ‬الأطراف تمتد حضارته بعيداً‮ ‬في‮ ‬أعماق التاريخ‮: ‬إنه الصين‮: ‬والنص جاء في‮ ‬كتاب‮ ‬يتضمن مختارات من شعر النساء في‮ ‬الصين،‮ ‬ترجمه إلى العربية صلاح صلاح وصدر عن دار الانتشار العربي‮.‬
جاءت النصوص تحت هذا العنوان الموحي‮: ‬الأنامل النحيلة،‮ ‬وهو عنوان‮ ‬يأخذنا إلى مناخ القصيدة الأنثوية الرقيقة،‮ ‬التي‮ ‬تقول حباً‮ ‬وعتاباً‮ ‬مراً‮ وشكوى من الفراق والبعد‮. يقال إن المرأة في‮ ‬الصين اعتادت تقليدياً‮ ‬على بُعد الرجل عنها،‮ ‬ففي‮ ‬بلد مترامي‮ ‬الأطراف وفي‮ ‬طبيعة قاسية‮ ‬غالباً ما يذهب الرجال إلى الخدمة العسكرية أو إلى العمل في‮ ‬مدن أخرى تتوفر فيها أسباب الرزق،‮ ‬وتبقى النساء وحيدات،‮ ‬لذلك فإن النصوص المكتوبة تحت وقع مشاعر الوداع والفراق والبعد كثيرة‮. ‬ لنقرأ ما تقوله إحدى الشاعرات‮:  ‬إن كنت ‬لا تصدق اني‮ ‬دائمة البكاء،‮ ‬من ذاك الحين، ‬افتح خزانة ملابسي،‮ ‬وتفحص ثوبي‮ ‬الرمادي‮ ‬الرُماني‮. ‬أو ما تقوله أخرى‮:  ‬لِمَ‮ ‬تبللين وسادتك بالدمع سراً،‮ ‬لِمَ‮ ‬تخفين أساك في‮ ‬الزهور‮. ‬أو هذا النص المدهش لثالثة‮: ‬ما أكثر الأشياء تقارباً‮ ‬وتباعداً‮: ‬الشرق والغرب،‮ ‬ما أكثر الأشياء عمقاً‮ ‬وضحالة‮: ‬الجدول الصافي،‮ ‬ما أكثر الأشياء علواً ‬ولمعاناً‮: ‬الشمس والقمر،‮ ‬من أكثر أجماً‮ ‬وبُعداً‮: ‬الرجل والزوجة‮.‬ هل للنساء لغة‮ ‬غير تلك التي‮ ‬لدى الرجال؟ ثمة جدل طويل حول هذا الأمر‮. ‬لكن الشعر النسائي‮ ‬الصيني‮ ‬الذي‮ ‬في‮ ‬متناولنا الآن‮ ‬يؤكد أن للمرأة العاشقة لغة آسرة خاصة بها‮.
‬إن البوح هنا‮ ‬يشف عن نفسه بعذوبة متناهية،‮ ‬وهو‮ ‬يلتبس بتعابير حسية واضحة تعبر عن التوق الحقيقي‮ ‬للحب الذي‮ ‬غالباً‮ ‬ما‮ ‬يصطدم بظروف قاسية تجعله متعذراً‮ ‬أو مؤجلاً‮ ‬أو مقصياً،‮ ‬لذا تبدو المفردة الشعرية الأنثوية أشبه بزفرة القتيل النابعة من أعمق الأعماق‮.‬ وينتصر الحب لنفسه بقصائد خالدات ما كان‮ ‬يمكن أن تقال إلا من نساء بقلوب كبيرة‮ ‬يعرفن قدر الحب ويمنحنه نفوسهن حتى لو كان ذلك من دون رجاء،‮ ‬كما في‮ “الملامة” ‬التالية لإحداهن‮: ‬يُقال أن البحر عميق،‮ ‬إلا انه ليس بنصف عمق الحب،‮ ‬للبحر على الأقل سواحل،‮ ‬الحب الكبير بلا شواطئ، ‬خُذْ ‬قيثارتك،‮ ‬تَسلق برجاً،‮ ‬حيث‮ ‬يملأ ضوء القمر الحُجر الخاوية،‮ ‬اعزف أغنية شوق الحب،‮ ‬لتتقطع الأوتار والقلب معاً‮!‬ ولنختم بهذا النص المبهج‮: “لم أشد نطاق عباءتي،‮ ‬حين طلبت مني‮ ‬أن أطل من النافذة،‮ ‬إن رفرف ثوبي‮ ‬وطرتُ‮ ‬إليك،‮ ‬نلقِي‮ ‬على ريح الربيع باللائمة‮”.‬

صحيفة الايام
17 مايو 2008