المنشور

صراع المحورين في البحرين


لا تزال جذور المحور الإيراني – السوري – حماس وبقية القوى الدينية والقومية المُنضمة إليه بحاجةٍ إلى تحليلٍ أوسع، حيث بدا أن هذا المحورَ محاصرٌ ومعرضٌ للضربات في حين أنه يتقوى ويتعاظم.
وإذا كانَ يبدو رسمياً حكومياً متوطداً كما في جمهوريتي إيران وسوريا فهو ذو طابع شعبي في لبنان وفلسطين الخ..


وأصبح تمسك هذا الخط بالملكية العامة الرئيسة في الاقتصاد وطرح الصراع مع الاستعمار كخطٍ استراتيجي، وتحجيم الليبرالية والديمقراطية وهي من سماته كذلك، فإنه لا يعني ذلك عدم وجود شعبية كبيرة له في بلدانه.
وإذا أضفنا بأن جماعة الأخوان المسلمين في مصر هي أقرب لهذا المحور من المحور الغربي الليبرالي التابع وكذلك منظمات(النهضة) في تونس والجزائر، فمعنى هذا بأن أغلبية قوية راحت تنمو وتعارض، مستعيدة شكل حركة التحرر العربية بشعاراتٍ وأهداف متعددة مختلفة، بوعيها غير القادر على تمثل سياسة مركبة جدلية بالجمع بين الديمقراطية والتحرر، بين الحداثة والتمسك بالجذور.
وهي تتفقُ على شعاراتٍ سياسية كبيرة كتحرير فلسطين كلياً أو القضاء على إسرائيل، والتصدي للاستعمار، كما أنها ترتكز على الجماهير العربية الذكورية والنسائية المحافظة وهي أغلبية السكان المسلمين التي تعيشُ في الغيبيات وذات الظروف الاقتصادية الصعبة أو المتردية. وبطبيعة الحال فإن تجربة الجمهور في حال هذه الأنظمة مغايرة لأحوال بلدان لم تذق فيها الجماهيرُ الشموليةَ الدينيةَ والسياسيةَ المطبقة. لكن بقاء النظامين الإيراني والسوري لا يعتمد على القمع وحده ولكن أيضاً على المؤسسات العامة التي تريحُ الجمهورَ من العصفِ الكامل للسوق الرأسمالي.
إن ذلك يوضح بأن سنوات الردة على الحركة القومية العلمانية والفكر التقدمي قد انتجت موجة شعبية محافظة كبيرة، ولكنها مع ذلك استجابت للتناقض الرئيسي الذي لا مهرب منه في كل البُنى الاجتماعية العربية وهو التناقض بينها وبين الغرب المسيطر.
وهذا بسببِ تغيرِ خريطة توزيع الموارد والسكان في المشرق العربي الإسلامي، حيث انتقلت بؤرتهُ المركزيةُ من مصر إلى الخليج والعراق وإيران، بحكم تدفق النفط وقيامه بإعادة توزيع الثروة والسكان فخلق ذلك قيادات إقليمية مغايرة لزمن الناصرية والتحرر القومي السابق.
وقد تفاقم ذلك التناقضُ الرئيسي بفعلِ جملةٍ من العوامل السياسية والاقتصادية المتعددة المتداخلة، كالحروب التي تـُشن ضد العالم العربي الإسلامي، والتي تـُؤخذ غالباً في الوعي الشعبي الُمبسّط بصورةٍ دينية(أي أنها حروب صليبية جديدة)، ثم هناك عملياتُ استنـزافِ الموارد النفطيةِ وإبقاءِ الخليج والجزيرة العربية كبقرةٍ حلوب، ليس للغرب فقط بل لشركائهِ وتابعيهِ في الهند وجنوب شرق آسيا، ثم هناك سياساتُ ضربِ القطاعات العامة وتفاقم الفساد والبيروقراطية وهي كلها تعبرُ على تضادِها عن صعودِ القوى البيروقراطية الاستغلالية في كل هذه الأنظمة والذي يعبرُ عنهُ الوعيُّ الديني غير العقلاني بل النصوصي الغيبي الفقهي الجزئي، فلا يجد هذا الوعي أمامه سوى انقساماته الطائفية.


ونرى إن هذه العواملَ تعبر عن غزو رأسمالي غربي واسع النطاق على الأسواق، ومترافق مع العولمة واتساع نفوذ الشركات العابرة للقارات.
وقد قاد إلى تكونِ تياراتٍ شعبية معادية للهيمنة، لم تتبلورْ على مستوى البرامج الاقتصادية والاجتماعية الدقيقة، ولكنها عكست نفسها في شعاراتٍ كالعداء لأمريكا ومحاربة إسرائيل وفي ظل مناخٍ ديني غيبي يتصور الحلولَ السحريةَ عبر القائد الملهم والجماعات المؤمنة النقية الخ..
فالبرامجُ الليبرالية الهزيلة المطروحة من قبل الأنظمة المؤيدة للغرب لم تتحولْ إلى برامج تقفُ ضد الخصخصة والبطالة ومص الأموال العامة والخاصة للمحافظ النقدية والأسواق الغربية والشرق آسيوية.
كما أن هجومَ هذه(الحداثة) الشكلانية غالباً والمعتمدة على الأزياء ووجبات الأكلاتِ السريعة والثقافة الغربية غير الرفيعة(خاصة ما تجسده أغلبية أفلام السينما الأمريكية)، أدت إلى الكثير من الجوانب السلبية في حياة الشباب وخلقت العديد من مناطق الصراع مع الثقافة الدينية التقليدية.


وهكذا فإن المحورَ الإيرانيَّ السوري ازدادَ اتساعاً بخلاف ما تقولهُ الدعايةُ العربيةُ والغربية الموالية للأنظمة، فإن دخول غزة واليمن ولبنان على هذا الخط بشكلٍ متقاربٍ متفجرٍ قد أوضحَ بأن هذا المحورَ هو الذي يقومُ بالهجوم الاستراتيجي، وأنه يزعزعُ حلفاءَ الغرب ويوسعُ دائرةَ مؤيديه بين الجمهور العربي والإسلامي.

هل يعني هذا بأن المحور على صواب؟

نحن لا نرصد الصواب والخطأ، بل نقرأ اللوحة الموضوعية المتشكلة أمامنا، فالمسألةُ ليستْ مسألةً أخلاقية مجردة، ففي جوهر هذه الأنظمة والحركات هناك دكتاتوريةٌ كبيرةٌ كما سبق القول، وقد قامت حركاتُ التحرر العربية والإسلامية على هذه الدكتاتوريات غالباً، لكونها بحاجة إلى قوى شعبية متحركة على الأرض وإلى أجسام بشرية صلبة تصطدمُ بالأنظمة وتجعلها تتراجع او تـُهزم، فهذه الأنظمة والقوى الغربية لا تأبه بالكلام.
أما الأجسامُ الليبراليةُ فهي لم تقدر أن تشكل قوى ضاغطة مهمة إلا في أزمنة المد الوطني الكبير السابق البعيد، أما الآن فهي تهتم بعيشها الخاص وبترحيلِ فوائض الرساميل العامة والخاصة للغرب والشرق، وظلت الدولُ المعتمدة على القطاعات العامة ونفوذ البيروقراطيين والعسكريين هي القادرة على تعبئة الناس حولها بالحق أو بالباطل، من أجل أن تقرر سياساتها كما تريد.
وهو أمرٌ يجعل هذه الدول والحركات تقوم بتفعيل الميراث الديني والقومي والأسطوري والخرافي، ولهذا نجد طوابير من البشر مثل الآلات مستعدة للموت في أي بقعة، وقد قامتْ هذه الطوابيرُ بأعمال مخيفة لتنفيذ سياسات دينية طائفية أو نضالية.
ولكن لا يعني ذلك بأن مثل هذه الأشكال صحيحة أو باقية ولكنها في لحظتنا السياسية الراهنة تلعبُ دوراً كبيراً.
وإذا أخذنا بعيِن الاعتبار بأن هذه الموجات تتشكلُ حتى من أقسام سياسية متصارعة وكيانات طائفية متناحرة، كتداخل المحور الإيراني السوري بالقاعدة وظلالها الشبحية، فإن المدى يبدو شديد الاتساع ومتنامٍ.



التداخل المحلي


وفي هذه الظروف المؤديةِ لتفاقم المحور الإيراني السوري ولبروز القاعدة والتصدي لظروف التبعية بوسائل أرهابية وسياسية مختلفة، فإن النظامَ في البحرين وهو يقوم بعمليات(الإصلاح) لم يستوعب الدروس ولم يقرأ بجدية خريطة المنطقة وأخطارها المتصاعدة.
فقد اعتبرَ (الإصلاحَ) بأنه ضربٌ للطائفة الشيعية بدرجة أولى، ويتمظهرُ ذلك بحشود كثيرة من الأدلة والحثيثات المتراكمة في خلال هذه السنوات القليلة الماضية.
أي أن تفكيك الطائفة الشيعية وخلق صراعات داخلها وشراء المنسلخين السياسيين منها واستعمالهم التكتيكي وإثرائهم، وتصعيد الهجوم على هذه الطائفة وخلق جريدة خاصة لهذا الغرض، إضافة للأصواتِ الأخرى السابقة، وخلق برامج تلفزيونية تصبُ في هذا الاتجاه وغيرها من المظاهر تثبت اتجاه السهم الحكومي الأساسي.
ونكادُ أن نقولَ بأن خلق النقابات والجمعيات السياسية الحديثة لم يكن من أجل وجودها الحقيقي الجيد الفاعل!، بل كان من أجل تحجيم المنظمات الشيعية السياسية بدرجة أساسية.
ومن هنا نجد هذا التسارعَ لشراءِ أي صوت (شيعي) مرتد أو متحول إليهم، وبذل الملايين في سبيل ذلك كما حدث لوزراء وكتاب!


أن الأجهزةَ الحكومية لا تنقضُ على المتمرد الشيعي فقط بل هي أيضاً(تنقض)على السياسي الذي يوجهُ سهامَ نقدهِ لطائفتهِ وجماعته، فيتم احتضانَهُ وتصعيدهُ بطريقةٍ مثيرة، وهو تخريبٌ مزودج، ففي داخل الطائفة تقومُ هذه التكيتكاتُ بتوسيعِ الحزازات وتشكلُ سياجاً طائفياً ضد أي انفتاح وديمقراطية فتسهمُ في تصعيد الدكتاتورية داخل الطائفة الشيعية، ومن خارج الطائفة تفسدُ هؤلاءَ المثقفين الدينيين أو اللادينيين كذلك الذين كانوا يتحسسون طريقـَهم الفقهيَّ والفكري المستقل فتم اقتناصهم ورشوتهم وتم منع تطورهم الفكري الموضوعي.
وإذا كان ذلك يدلُ على هشاشةِ هؤلاء المثقفين وضحالةِ استقلالهم، وعدمِ إنجازهِم لفكر ديني تحديثي وديمقراطي، فإنه يدل كذلك على جمود المرجعيات داخل الطائفة الشيعية وعدم مرونتها في هذه المعركة المزدوجة، لتوسيع حلفائها وجذب المفكرين والباحثين والمعارضين من القوى الأخرى ومن الطائفة الأخرى لتكون سياج وطني قوي ضد هذا التمادي في استخدام الثروة الوطنية للشر والفساد، وهو سياجٌ لا يشكله سوى وعي وطني ديمقراطي يصنعُ ويبثُ بين الناس.
فالبنية الفكرية السياسية الدينية هي ذاتها، في كلا الفريقين، ولكن في حالة الطائفة الشيعية فإنها تدافعُ عن جماعة كبيرة يُراد تذويبها في بحر التجنيس والأجانب المنهمر والإصلاح الموظف للهيمنة، والبنية الفكرية السياسية الدينية هي السلاحُ المهمُ القوي الذي تملكهُ في حين تملكُ السلطةُ كلَ أدوات التذويب والعنف بل وحتى تغيير الخريطة السكانية بمجملها.
في حين تقوم الأجهزةُ التنفيذيةُ بعرضِ سياستها الطائفية على الملأ دون أي خجل أو أحساس بالمسئولية، فهناك المشروعاتُ الحقيقيةُ أو المزعومة التي تتدفق على المحرق وكأن (المسئولين) يمضون إلى دولة أخرى، في حين يتجاهلون المناطق القروية الكبيرة الفقيرة وحاجاتها كالمدينة السكنية الشمالية التي مضت سنوات عديدة دون بناء شيء فيها، وكل هذا من أجل إذكاء الحقد عند الطرف الوطني الآخر، فأية سياسة طفولية هذه؟! وكذلك اهمال الأحياء الشعبية في المنامة كالمخارقة والحمام والحورة التي تحولت إلى ما يشبه المقابر والمناطق المحاصرة!


وهكذا فإن الشعارات التي تطرحها السلطةُ عن الوطنِ الواحد والشعبِ الواحد هي كلامٌ فارغٌ بامتياز.
ففي محاولاتهم لخلط الأوراق والنأي بأنفسهم عما هم فيه من طائفية فاقعة ومن إستغلال أسطوري لموارد الشعب والبلد، يوجهون تهمة الطائفية للجماعات الدينية السياسية الشيعية فقط، ليس لشيء سوى أنها تمثل ثقل المعارضة الكبير والمتماسك خلافاً لبقية القوى والقادر على فعل شيء في هذا الزمن الطائفي بامتياز، ولو كانت هذه القوى الدينية الشيعية تقفُ مع الحكم في محاربةِ قوىً أخرى لبدلوا رأيهم فيها، كما فعلوا قبل عقود حين تم استخدامها ضد الوعي التقدمي، فمقياسهم هو في مدى تحول المواطنين إلى خدم وليس المقياس هو وطنيتهم ومنقابهم الأخلاقية والسياسية!
ونحن إذ نرفضُ الطائفية عند كلا الفريقين المتعاركين طويلاً جداً، والذين مروضوا المجتمع بأمراضهم، نذهل أشد الذهول حين تطرح الجماعة السياسية والإعلامية الصانعة للطائفية بأنها وطنية!
لقد تشكلت الطواقمُ الحاكمة الارستقراطية القبلية عبر التسلط على الموارد على مدى قرنين مديدين فتكاد أن تكون الطبقة شبه الوحيدة في هذا العصر التي قامت بمثل هذا الاحتكار في هذا المدى الزمني الطويل حتى بخلاف عائلة آل صباح التي لم تقم على مثل هذا التجبر، وهم يضعون شعار (السنة) الفضفاض الخادع من أجل أن يفرقوا الشعب.
واستطاعت هذه الارستقراطية أن تفرق بين الناس فعلاً وتكرس الطائفية بشكلها المتعالي المتخلف، وجعلت من الموارد العامة وأغلبية الوظائف، خاصة في الأجهزة العسكرية والسياسية، لها وللمقربين منها.
وهناك (ثقافة) بث طائفي خاصة، وأجهزة حكومية سرية مخصصة في نشر هذه القذارة وخلق التشويش والمعارك بين الشعب الواحد، وعملاؤها موجودون في كلا الجسمين الاجتماعيين من أجل خلق هذا الصراع المحموم!


فإذن لا تحدثونا عن الدولة(الوطنية)وعن الثقافة(الوطنية) ولاعن شعارتكم لمحاربة الطائفية، فأنتم مؤسسو الطائفية ومنتجوها والمرجون لها، وإذا هي لم تكن موجودة فأنتم راحلون مع رحيلها، واذا زالت طارت المليارات التي تسرقونها من موارد الطائفتين اللتين يجب أن تبقيا دائماً متصارعتين.
وتبلغ الأمورُ الغريبةُ حداً كبيراً حتى إنه لم يعد الأمر إزالة الطائفة الشيعية بل إزالة الطائفة السنية كذلك، فهناك إغراقٌ للبلد بالأجانب من كل حدب وصوب، فلم يشهد أي مجتمع في التاريخ المعاصر شرقاً وغرباً مثل هذه الحملة الرهيبة على شعب صغير وإغراقه بكل الجنسيات، وتدمير عاصمته(المنامة) وتحويلها إلى ماخور وأسطبلات بشرية، حتى محيت أحياء وظلت أحياء المواطنين الفقراء خرابات!
هل هي مذمة للشيعة أنهم تماسكوا وتضامنوا واتحدوا في طوفان تذويبهم فقط لأنهم معارضون؟
إلى أين تقودنا هذه العقلية الاستئصالية؟



الداخل والخارج


واذا قرأنا الآن علاقة هذا كله ببعضه البعض، بمعنى أن ندرس نمو المحور السوري الإيراني الغزاوي اليمني المصري القاعدي، بالعمليات الاجتماعية والسياسية في البحرين فكيف سنرى الأمور؟ هل سنشهد إندراج البحرين الكبير في هذا ويكون لدينا حزب الله القوي؟
إن الآراءَ المبسطةَ تقولُ بهزيمة إيران الحتمية في المواجهة مع أمريكا وإسرائيل وهو قول غير مؤكد، بسبب أن الدولتين نفسيهما تعلنان بصراحة بأن معركتيهما محدودة ومركزة على المجال التجريبي النووي، ولا تستطيع أن تكون أبعد من ذلك.
فإيران قوة إقليمية كبيرة والجمهور الملتف حولها والقوى الشعبية المسلحة التي تملكها كبيرة، ولا تستطيع المعارضة الإيرانية وكراهية الشعب لحكم رجال الدين أن تصلا إلى شيء مهم من هذه القوة.
كما أن التورطات الأمريكية في المنطقة جعلت قدميها عالقتين في مستنقعين كبيرين لا قرار لهما، كما أن هذه الدول المشرقية الدينية (المتخلفة) طالما غلبتْ غزاةً أقوى منها وأشد علماً و(حضارة).
وهكذا فإننا يمكن أن نرى الصورة معاكسة فماذا لو تغلبت إيران على القوة الأمريكية؟ ماذا سيحدث؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة في مثل ذلك؟
ربما يُعتبر هذا الكلام مثل شطح الخيال، لكن لا شيء يمنع تحققه.


إن ما يمنع من الهجوم النووي على إيران هو حصولها على القنابل النووية، فيغدو السلاح النووي خارج المعركة. والسلاح النووي هو سلاحٌ حيادي أكثر منه حقيقي، فإيران لا تستطيع استعماله فإذا استعملته حكمت على نفسها بالزوال لكنه يبقى لها بمثابة سلاح ردع. وهذا هو تفكير المجموعات الحاكمة في حين أننا نرى إن المنطقة بحاجة لنزع السلاح النووي من جميع الأطراف.

فلا تبقى إذن سوى القوى البشرية المقاتلة ومدى صلابتها وتضحياتها.


ونحن نعرف طبيعة القوى الأمريكية وكيف تفر من كثرة الضربات البشرية عليها، في حين إن القوى الخليجية العربية العسكرية وصلابتها القتالية هي أمورٌ لم تجُربْ وقد فشلتْ في حروب لم تقع أصلاً وقد كرست هذه القوى للقمع الداخلي ولهدر الميزانيات، خاصة في البحرين التي تعددت فيها القوى العسكرية المختلفة مستنـزفة الموارد كذلك.
وهكذا فإن مصيراً قاتماً يواجه الأنظمة الخليجية في تبعيتها للسياسة الأمريكية، وخاصة النظام (البحريني) الذي شذ حتى عن الأنظمة الخليجية نفسها في تذويب الشعب وإحلال جيوش العمالة الأجنبية محل المواطنين وقام بإفقاره وإذلاله.
أما في وقت هذا السلام الهش الراهن الذي نرجو أن يدوم ويتدعم بإجراءات سلام فعلية وأن يحدث حوار بين حكومة الولايات المتحدة وإيران، فإن الحوارات بين الدول المتنفذة والتحولات السياسية الحالية لا لا تبشر بسلام وخير.
هناك صدام على مستوى إقليمي وعلى مستوى وطني، فسياسة الحكومة الأمريكية الراهنة هي الصدام مع إيران وتغيير الوضع فيها، وهذا ما يمثل سياسة النظام في البحرين، ولكن هنا يجري على شكل تفتيت مبرمج للشيعة كما أوضحنا سابقاً، ونظراً لهدف المشروع الأمريكي بضرب تجربة إيران تجري عمليات أصغر في البلدان الأخرى التي فيها الطائفة الشيعية فيجري تحييدها وتغييرها بحيث تتم عمليات سيطرة مجزأة ولكن متكاملة على المستوى الإقليمي.
إن قدرة الطوائف على حشد المجموعات الكبيرة ودفعها في الصراع هو ما يثير قلق الدوائر الأمريكية والعربية المحافظة، وهذا الحشد يكبرُ ويتصاعد متجهاً للأدوات العسكرية.
ويقدم النظامُ في البحرين مادةً جديرةً بالدرس في هذا الجانب، فقد عارض انخراط أفراد الطائفة الشيعية في التشكيلات العسكرية الكثيرة:قوة دفاع، وحرس وطني، وشرطة، وقوات شغب وقوة نواطير. وهذا المنع يصيبُ الشبابَ الريفيَّ بدرجةٍ خاصة، فإمكانيات التعليم وحياة الفقر لم تسمح بمهن متطورة، مثل ابناء السنة الفقراء في المدن، وقد أدى رفض إلحاق شباب الشيعة في المجموعات العسكرية إلى انخراطهم الكبير في المعارضة. خاصة مع سياسة التجنيس وإعطاء المجندين المهاجرين العرب والباكستانيين امتيازات عديدة تمثل استفزازاً للمشاعر الوطنية وتهييحاً اجتماعياً أحمق، ولا يجد الشباب الشيعي مجالاً إلا في المخابرات حيث يتحولون إلى عدو يومي لأبناء شعبهم.
ومع اشتداد الأزمة السياسية وبقاء قوى الفساد في الحكم واستمرار سياسة التذويب وفشل الحقن الاجتماعية والاقتصادية المنشطة للهيكل الشعبي البحريني المصاب بأنيميا الفقر والبطالة، والتي تعبر عن بقاء مؤسسة الفساد الوزاري في حين تمثل الحقن سياسة القصر، فإن عملية الإصلاح التي تجري في مستشفى الجنون السياسي هذا، جرت كتخدير مؤقت لحين تقومُ السياسة الأمريكية بتنفيذ ضربتها تجاه إيران، مثلما لها أهداف أخرى عديدة.
وهكذا فإن السياسة الأمريكية الإصلاحية تعطي القوى الشعبية إمكانيات تكتيكية محدودة بعيدة عن الهيكل العظمي للنظام، كما أن النظام استغل ما يجري للحصول على أرباح كبيرة مالية لأقطابه ومن أجل تدفق الرساميل التي يقتطع منها باعتباره إقطاعاً سياسياً.
وهذه السياسة تُنفذ في السعودية على شكل بطئ وعلى مراحل، وقد جُعلت البحرين كمختبر لدول المنطقة الخليجية من أجل تطبيق نظام السيطرة العالمي – الإقليمي. 
وهذه(الإصلاحات) الأمريكية المرتبطة بمنطقة الدولار ومشكلاته وبنـزول القوة الأمريكية عالمياً، وبالاعتماد على سياسة القوة والقواعد والحكومات المحافظة المبهرجة بشيء من المكياج الديمقراطي، من شأنها تفاقم المشكلات على الجمهور خاصة الشيعي منه، فتؤدي إلى زيادة فاعلياته وحركاته ضدها، ويؤدي أبعاده عن الحياة العسكرية إلى تحوله إلى عسكر شعبي، فيقومُ بابتكارِ أسلحته الخفيفة. وليست (قضية المولوتوف) سوى بداية الغيث الحارق.

 
لقد جاء البناءُ التحوليُّ بدون أسس تغيير جادة بعيدة المدى وأقيمَ فوق سياسةٍ طائفية ارستقراطية متعالية مانحة بأبوية، فلم يصل إلى جذور الفساد والطائفية، ومثلَّ بشكلٍ موضوعي تكتيكاً أمريكياً للتهدئة ولفصم الحلقات الشيعية والدينية المختلفة تمهيداً للسيطرة على المركز في إيران.
أي أن المستوردين البحرينيين الحكوميين للخطة الأمريكية لم تكن لديهم القدرة على صناعة دولة وطنية. وهذا أمر سوف تستفيد منه الحكومةُ الإيرانية عبر استثمار هذه التناقضات وتصعيدها في أي لحظة هجومية أمريكية أو إسرائيلية، وقد يصل جنون التاريخ إلى احتلال إيراني لبعض مناطق الخليج والجزيرة العربية، بحكم القوى السكانية الحربية الكبيرة، كما أن السعودية مقبلة على تفكك وتصاعد قوى القاعدة وانفصام نجد واستقلال الإقليمين الآخرين هو أمرٌ وارد. ولا نستبعد حرباً جديدة تحشد لها أمريكا وتهدر مليارات أخرى من ميزانيات المنطقة بعد فترة من تعملق المحور الديني القومي.


إن العام في التكون السياسي العربي الراهن هو تصاعد القوى الدينية المحافظة وهذا التصاعد له آثاره السياسية، وخاصة بالقرب من الصفيحتين القاريتين السنية والشيعية في الجزيرة العربية وإيران، ويمكن أن تكون هناك أيضاً تبعاً لهذا علاقة بين إيران والقاعدة من أجل تقاسم الدويلات والنفوذ في بركان التحول القادم.
إن قدرة الدول الغربية على تحطيم هذه الموجة الكبيرة تبدو ضعيفة كما يجري في النموذج الأفغاني الذي سيكون له دور التصعيد في هذا السيناريو الجهنمي. فماذا تمثل أفغانستان بالنسبة لإيران؟
يُفترض عبر قراءة هذه الاحتمالات أن تتجه الحكومة في البحرين إلى تغييرات جذرية حقيقية، وإلى إصلاح فعلي وليس إلى تكتيكات سياسية ومراضاة لقوى الفساد والتسلط الفردي والقبلي، ووقف سياسة التجنيس وغمر البلد بالفيض السكاني العالمي وتقزيم المجلس المنتخب الخ..
بطبيعة الحال إنني لا أرى إمكانية ذلك وسوف تتصاعد قوى المواجهة كما تتصاعد في بقية المنطقة إلى أن تأتي لحظات الصراع الخطيرة، فلا أحد من المتسلطين يتعظ حتى تأتي ساعته.