المنشور

جروح نازفة‮..!‬


 
أرجو أن يؤذن لنا في الإلحاح بدعوة أصحاب السعادة النواب إلى أن يكون تعاملهم القريب مع تقرير ديوان الرقابة المالية تعاملاً مسؤولاً له قيمة، وله اعتبار، وله معنى، وله صداه، وله نتيجة.
وأياً كان تقييمنا، ومهما كان قدر إحباطنا من الملابسات والأجواء التي أحاطت بتناول النواب في الفصل التشريعي السابق مع التقارير الثلاثة التي أصدرها ديوان الرقابة المالية، فإن الثابت والمعلوم أن أسوأ ما في ذلك التناول أنه تحول إلى قضية للمزايدة، والإثارة، ولكثير من التجاذبات والمناورات والحسابات التي جعلت بالنهاية النتيجة غير محمودة، وغير معتبرة.
لا نريد أن نرجع في هذا الشأن إلى وقائع يعرفها الجميع أشاعت بين الناس درجات متفاوتة من الحيرة والدهشة، وبوسع المرء أن يستخرج من أرشيف أي جريدة ما لا حصر له من هذه الوقائع التي تبين أن تلك التقارير لم تؤخذ على محمل الجد، ولا نبغي الآن أن نوجه اللوم إلى النواب الذين لم ينهضوا بمسؤولياتهم ولم يفعّلوا دورهم الرقابي الحقيقي على النحو المرجو، خاصة إزاء التوقعات المعروفة سلفاً، وإنما كل الذي نريده الآن أن يكون النواب في المرة المقبلة في مستوى المسؤولية وفي مستوى التوقعات.
إن تقرير ديوان الرقابة المالية للسنة المالية 2005 والحساب الختامي للدولة عن السنة المالية نفسها الذي سيكون على جدول أعمال الجلسات المقبلة لمجلس النواب الذي ينتظر أن يعقبه لاحقاً مناقشة تقرير عام 2006 والحساب الختامي عن هذه السنة، هذا التقرير أو ذاك، وتقارير الديوان بشكل عام، هي جزء من دور الديوان في الرقابة على الأموال العامة والتحقق من سلامة هذه الأموال ومشروعيتها وحسن إدارتها على جميع الوزارات والجهات التي ترد حساباتها ضمن الحساب الختامي الموحد للدولة، الذي نرى بأن الهدف المفترض من تقديمه الى النواب هو تمكينهم من ممارسة دورهم الرقابي على أموال الدولة، وأنه في حال التأخير يجعل هذه الدورة بلا قيمة من الناحيتين الاقتصادية والمالية، وهذا موضوع آخر لا بد من التنبه له ومعالجته إذا كنا جادين فعلاً في تفعيل هذا الدور الرقابي للنواب.
في كل الأحوال يبقى التقرير الجديد القديم في الحدود المتاحة الآن على الأقل بمثابة امتحان جديد للنواب الذين عليهم أن يؤكدوا على جديتهم وأن يثبتوا بأنهم لن يتخلوا عملياً عن أمانة المسؤولية في التعامل مع هذا التقرير، ولن يفرطوا في دورهم في الرقابة والمساءلة، وبأن أداءهم لن يغلب عليه هذه المرة الطابع الكاريكاتوري، ولن يجرونا إلى طرائق ودروب ملتوية لا فائدة منها وفي أحسن الأحوال لا تثمر سوى وهم بالإنجاز.
لن نذهب بعيداً في الطموح، وأن نعلل النفس بأن النواب سيقومون بمجهود جدي هذه المرة في التعامل مع التقرير لن يقف بنا عند حصيلة متشائمة، وذلك لحين موعد الامتحان الذي سيكون عسيراً على النواب.. كل النواب، وحتى ذلك الموعد سيكون وارداً في الحسبان بأن ثمة قراءتين في شأن التقرير، بل وفي كل تقارير ديوان الرقابة المالية السابقة واللاحقة، قراءة إيجابية ترى في هذه التقارير فرصة للنواب لاستخدام إحدى أدوات تفعيل دورهم الرقابي في الحدود المتاحة حتى الآن للتحقق من سلامة استخدام المال العام ومشروعيته وحسن إدارته وسد الثغرات التي تستغل في ارتكاب المخالفات وتفشي مظاهر الخلل والانحراف والفساد.
أما القراءة المتشائمة فهي ترى في هذه التقارير بأنها من النوع الذي يمكن أن يقال عنها إن فيها كل شيء وليس فيها أي شيء، أو إنها في أحسن الأحوال لا تطمئن أحداً ولا تقلق أحداً، خاصة إذا كان التعامل مع هذه التقارير على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية على حد سواء أبسط ما يقال عنه إنه بلا لون ولا طعم، وإن مضامين هذه التقارير لم تكن في يوم من الأيام منطلقاً لأي اتجاه أو لأي إجراء ملموس؛ فالسلطة التنفيذية لم تتعامل بالجدية الكافية مع هذه المضامين، والوزارات المعنية كل ردودها تبريرية تصر فيها بأن الجروح النازفة من المخالفات والتجاوزات والخروقات المالية والإدارية الصريحة والواضحة، ما هي إلا مجرد ملاحظات ستخضع للدراسة والتقييم والمعالجة، الأمر الذي يجعل كثيرا من التجاوزات تتكرر في كل تقرير، والمؤسف جداً أننا لم نسمع أن أحداً حمّل مسؤولية أي تجاوز، أو أن مخالفاً خضع للمحاسبة، أو أن فاسداً قدم للعدالة، أو أن أنظمة رقابية داخلية جديدة أكثر فاعلية على إدارة العمليات المالية قد فرضت، أو أن تدابير اتخذت لمواجهة أي مخالفات، بل إن التقرير الجديد القديم يشير صراحة إلى تكرار العديد من الملاحظات والمخالفات الصريحة التي وردت ضمن تقرير ديوان الرقابة المالية لعام 2004، والأدهى أنه يؤكد أن ليس هناك مؤشرات على أي تحرك من الوزارات والجهات المعنية في معالجتها.
نعلم أن كل تقرير من تقارير ديوان الرقابة المالية يكشف عن كثير من التجاوزات والانتهاكات سواء مالية أو ادارية، ويطرح ملاحظات جوهرية على الحسابات الختامية للوزارات والجهات الحكومية، منها تلكؤ العديد من هذه الوزارات والجهات في التحضير للبيانات اللازمة لإعداد الحسابات الختامية المدققة وعدم تقديمها لوزارة المالية في الموعد المحدد خلافاً لما نص عليه قانون الميزانية العامة للدولة، وعدم الالتزام بالمعايير والأسس والسياسات المحاسبية التي تغطي كل جوانب الأنشطة المالية وبطريقة تضمن إفصاح أشمل للبيانات المالية الحكومية، بل إن التقرير يطالب وزارة المالية باعتبارها معنية بوضع المعايير المحاسبية وهي التي تشرف على الحسابات الحكومية، وهي التي تملك الحسابات الحكومية، وهي التي تصدر التقارير المالية، يطالبها بمشاركة جهات أخرى في وضع المعايير والأسس المحاسبية لكي لا تكون الوزارة هي من يضع المعايير للحسابات الحكومية وهي من يمسك الحسابات وهي من يشرف على التنفيذ.
إن التقرير يشير في ثناياه إلى مخالفات صريحة للوائح والنظم المالية والمحاسبية وفي أسلوب العمليات في وزارات عديدة، وفي هيئتي التأمينات والتقاعد، وفي شركتي “ألبا” و”بابكو”، ويؤكد التقرير على مدى اهتمام ديوان الرقابة المالية بهاتين الشركتين بسبب كبر حجم استثمارات الدولة في كل منهما والدور الاقتصادي والاجتماعي لهما.
وإذا كانت بعض الجهات الوارد ذكرها في التقرير سوف تستنفر طاقتها في تفنيد ما جاء بشأنها وإنكار الحقائق المتصلة بسير العمل بها، فقد ألفنا ذلك كرد فعل على كل تقرير خلال تسليط الضوء على كل تقرير.
 وسوف يتكرر السيناريو، وتتكرر التبريرات، وتستمر المخالفات والتجاوزات وسيبقى الحال على ما هو عليه رغم اليافطات التي رفعت والعناوين التي نشرت، والتصريحات التي بشرتنا بسياسات وضوابط وإجراءات للمحافظة على المال العام، وأن هناك محاسبة سوف تأخذ طريقها العادل حيال كل مقصر أو مهمل أو مخطئ أو فاسد، وإن كنا على قناعة بأن تقارير ديوان الرقابة المالية هي في نهاية المطاف لا تبين إلا بعض جوانب التردي في واقعنا، لأن المخفي والمسكوت عنه أكبر وأعمق من هذا الذي ظهر وبان، فإن المطلوب الآن إصلاح إداري ومالي وإعطاء ديوان الرقابة المالية المزيد من الصلاحيات التي تجعله قادراً على تقديم المخالفين والفاسدين للعدالة، أما نوابنا فكل المرجو منهم أن لا ينتقلوا في التعاطي مع التقرير من السيئ إلى الأسوأ..!
 
الأيام 16 مايو 2008