تعترض حوارنا الوطني قضايا مفصلية لتخطي إشكالية التناقضات القائمة في جسد المجتمع ونسيجه، سواء من حيث بعده التاريخي أو الآني أو المستقبلي، ولكي يصبح الحوار ناجزا ومؤثرا في عملية تماسك الوحدة الوطنية وتقطيع جذور وعوامل مكونات الطائفية ونزعتها ولو من منظورها القريب، ومن جهة أخرى الحفاظ على كل جوانب الحقوق المدنية والدينية لذلك النسيج، إذ لا يمنع تطور المجتمع تدريجيا في بنيته الطائفية والقبلية نحو الدولة الحديثة الدستورية، إلا بشروطها التخلي عن استخدام وتوظيف تلك النعرات من اجل ديمومتها لشعورها أن ذلك حقق لها الهيمنة على السلطة دون الاعتماد على شرعية وحدة الشعب والدستور اللذان ينبغيان أن يكونا هما المرجعية الفعلية للجميع، ولن ينجز ذلك إلا بتنفيذ وتفعيل تلك المرتكزات الأساسية فيه، من حريات وحقوق وسلطات فاعلة وعادلة.
لكي لا ندخل في دهاليز الصراع القبلي والطائفي ودولة مشوهة الكيان، حيث نراها مشدودة لذهنية الماضي، بينما تيار التغيير وقوة التفاعلات العالمية تقتضي الانخراط أكثر نحو دولة محددة الكيان والحداثة، مستكملة شروط وشكل تفاصيلها الدستورية، في وضع مؤقت مقبول ومستقبل يسعى الجميع لاستكماله معا، إذ برهنت الحقبة السابقة ان ذلك النموذج الاستبدادي المتكئ على عنوان القوة والكبت ومراسيم التسلط، لم تقد وتدخل البحرين إلا نحو التوترات والتنمية البطيئة المتشحة بالفساد.
ولكي يكون مشروع الإصلاح الذي جاء به عاهل البلاد فاعلا، عليه ممثلة بالدولة وعلينا ممثلة بالمجتمع المدني المساهمة في نسج توافق مشترك لنوعية ذلك المستقبل والدولة العصرية التي من ضروراتها الأساسية إعطاء كل النسيج حقوقه وإبعاد الطائفة والدين عن التعامل مع السياسة من منظورهما الضيق، الديني والطائفي، بحيث لا يمكن أن تستقيم دولة حديثة تدير المجتمع والدولة بذهنية طائفية وسلطة دينية، فذلك يدخل فكر الدولة ونهجها السياسي إلى تناقضات متضاربة، في كيفية وطبيعة سلطة الشعب ووحدته السياسية والاجتماعية والحقوقية.
الإسلام حقيقة في أوال والطوائف حقيقة بحرينية كذلك، وهما حقيقتان تاريخيتان ترسخت جذورهما في تربة البحرين منذ نشوء الإسلام، ولكن الدولة العصرية والطبقات الاجتماعية والعلاقات الدولية وتعقيدات فكر الدولة والحقوق المدنية وبرامج التنمية المستدامة وغيرها من حراكية دائمة داخلية وخارجية هي جزء من معطيات الحياة الإنسانية وعناصرها الحضارية المتفاعلة، وهي ضرورة من ضرورة التغيير ولا يمكن إقحام التاريخي بالديني بالسياسي بصورة ميكانيكية، تدخلنا في الصدام الأهلي، ما لم نكن قد استوعبنا تلك الحقيقة، وبأن تجارب الدولة الدينية لا يمكن أن تستمر في عصرنا، فهي في نهاية الطريق تدخل نفسها في تعرجات العصر، وترى نفسها مجبرة على التنازل يوما اثر يوم، حتى وان احتفظت بقيافتها ومظهرها الخارجي، وحاولت تفسير الأمور الدينية بمرونة، إذ هناك ثوابت دينية لا تقبل التغيير بينما الدولة وفكرها السياسي ومجتمعها المدني مبنية على أساس مبدأ التحول المستمر وبأن قانون الصراع الاجتماعي احد محركاته الأساسية.
لن ينجح أي مشروع إصلاحي وطني لتذويب الحساسية التاريخية والاجتماعية بين السكان بطوائفهم وأعراقهم وثقافاتهم المتباينة، إلا بالتوافق على حل سؤال هام وهو ما هي ثقافتنا الوطنية المشتركة ؟ التي ينبغي زرعها في نفسية وذهنية أطفال الوطن؟ كيف نغربل برنامجنا الثقافي الوطني القائم على المزيج والتنوع المشترك دون خوف من الشعور بطغيان الآخر، فالمهم هو المستقبل الذي يقدم نوعية جديدة من الثقافة المشتركة التي ستحدد ملامح الأجيال القادمة، والتي نراها مجسدة بلا وعي مفروض في تداخل فنوننا ومزاجنا في الملبس والطعام، وغيره من التنوعات التي بهذا القدر أو ذاك تفرض نفسها بصورة طبيعية، دون حاجة لممارسة الهيمنة الثقافية وتسلطها الفوقي، خشية من ذوبانها وضياعها في تيار “تتوهم” انه سيجرفها بقوته، متناسية أن المساواة وحدها تخلق روحا جديدة، والتمييز والتسلط يدخلنا في دائرة الانغلاق عن الآخر والخوف منه وكراهيته بصمت، لكونه يمارس التهميش والقسر الثقافي. ولن تكون أفضل لثقافتنا الوطنية، من مناهج المرحلة المدرسية الأولى إلى أعلى درجة في الجامعة، كما إن التداخل السكاني لكل مشروع ووحدة سكانية يُؤسس على التداخل دون النظر بروح النسبة والحصص، وإنما بأهمية توزيع عادل لحقوق المواطنة، فمن كان رقمه أقدم من حقه أن يحصل على حقه دون مماطلة، كما إن ممارسة مواصلة بناء المشاريع بروح فئوية وطائفية وقبلية، لا يجوز تكريسها وتعميقها بإرادة ووعي يسهم بسياسة التفتيت والتقسيم والتمايز، وبدلا من أن نطوق فكرة التطويف والنزعة القبلية، نسعى إلى دولة الطوائف اعتقادا منا على أنها طوقنا وحصننا المنيع، في مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية الناجمة عن صراع أعمق في مظاهره البنيوية.
انتهى زمن المعجزات، وباتت القدرة الإنسانية والمعرفة قادرة على معالجة شتى أنواع الظواهر التي من المهم أن نضع لبنات وأسس صحيحة لحلها، ولن تكون البحرين بلدا أعمق واعقد في نسيجه الاجتماعي والديني عن بلد بحجم الهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومع ذلك تخطو كل ما يمكن أن يخلق شعورا بضياع الهوية الحقيقية للمواطن الأمريكي والهندي والأوروبي.
صحيفة الايام
13 مايو 2008