المنشور

بغداد.. بيت عمر وعلي وآزاد


الأيام الستة التي عشتها الأسبوع الماضي في بغداد بدعوة من الأستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون وكبير مستشاري رئيس الدولة لحضور ‘أسبوع المدى الثقافي’ كانت مشوبة ببعض القلق وسط الحماية الأمنية ومحدودية الحركة. لكنها أيضا كانت مليئة بمتعة الاكتشاف والتحدي والزاد الثقافي والالتقاء بأصدقاء قدامى وجدد ومعرفة كثير مما يجري على الأرض. ولم يكن الكسل هو ما حال دون خروجي على القارئ في الأسبوع الماضي، بل لأنني كنت حريصا على أن أقطع مع كل شيء آخر لأعيش وجودي في بغداد لحظة بلحظة.



أسابيع المدى الثقافية الثلاثة الأولى جرت في دمشق عندما كانت بغداد تئن تحت الدكتاتورية، الرابع والخامس في أربيل عندما كانت بغداد تكتوي ‘بالفوضى الخلاقة’ وبنيران الاحتلال وإرهاب تحالف قوى النظام السابق وقوى الظلام الطائفية. وفي أواخر مايو/ أيار 2006 كتب الأستاذ فخري كريم في جريدة المدى: ‘.. فليوقد كل منا شمعة في زاوية يحاول القتلة أن يحاصروها بظلامهم. ولنجعل من مدينة بغداد عنفوان كل عراقي يرنو نحو أفق مضيء مشرق بالأمنيات التي يحاولون إطفاء جدوتها في روحهم..[1]’ . وهاهو في الأول من مايو/ أيار 2008 يحقق خطوة هامة على هذا الطريق بافتتاح أسبوع المدى الثقافي السادس في قاعة المسرح الوطني بغداد. ‘ستنبض بغداد بالثقافة من جديد’ يقول كريم.



وبالفعل، شاهد المشاركون في المهرجان في كل يوم عروضا مسرحية وفنية وأفلاما واستمعوا إلى الشعر والغناء من قدامى المبدعين وشبابهم، نساء ورجالا. وحضروا معرضا للكتب ضم ما يزيد على عشرين ألف كتاب لمؤلفين عراقيين وعرب وعالميين. وجالوا معارض للوحات الفنية والصور الفوتوغرافية ومنتجات الحرفيين والفنانين. وحضروا تكريم رجال الثقافة والأدب والفن ابتداء من فنانة العراق التسعينية العمر عفيفة اسكندر. كما دعي السيد عادل عبدالمهدي، نائب رئيس الوزراء إلى مواجهة صريحة هي الأولى من نوعها مع أكثر من ألف مواطن حول التطورات منذ سقوط الدكتاتورية بأبعاد تحليلية للماضي، حيث حكم الحزب الواحد 35 سنة بالدكتاتورية التي قتلت ونكلت وشردت العراقيين واستحقاقات الحروب الداخلية والخارجية التي أفقدت العراق سيادته وأخضعته للعامل الدولي منذ سنوات طويلة قبل التغيير. وعليه فلم يأت التغيير الذي حدث عام 2003 بالشكل الصحيح، ولم توافق عليه كافة القوى الشعبية، حيث إن القوات الأميركية التي أسقطت النظام هي ذاتها التي حمته من السقوط في السابق. وقد ترك ذلك إرثا ثقيلا لا يزال الوضع العراقي يعاني من آثاره، ومنه دخول ‘تنظيم القاعدة’ وقوى دولية وخارجية أخرى على الخط. ومع التحولات السياسية الإيجابية الجارية إلا أن آثار الإرث وأشكال من المحاصصة ستظل تجد مكانها حتى الوصول إلى التوازنات المطلوبة في إطار الدستور، وبحيث يصبح ‘الدستور بالنسبة للمجتمع المدني كالقرآن للمؤمن’ حسب عبدالمهدي. وجرى الحديث والنقاش حول الاقتصاد ونزعة الدولة لتسريع عمليات الخصخصة، الأمر الذي قوبل من الحاضرين بالتأكيد على أهمية ثقل قطاع الدولة والوفاء بالتزاماتها الاجتماعية، خصوصا في المرحلة الحالية.



كما ساهم المشاركون في نقاشات الطاولات المستديرة حول عدد من القضايا الملحة كالطاولة حول مشكلة الطاقة التي حضرها وزراء النفط والكهرباء والموارد المائية وأكاديميون واختصاصيون واقتصاديون ورئيس مؤسسة المدى وضيوفه من الخارج.



أجل، رغم أن بغداد تبدو للقادم من الخارج مدينة معاناة وقلق وأمن مضطرب إلا أن شهادات مسؤوليها وأهلها والنقاشات الدائرة والأنشطة الثقافية والعمالية تبين أن طلقات النيران بدأت تتراجع أمام طلق ولادة بغداد الجديدة. وعلى حد قول الرئيس العراقي جلال الطالباني (مام جلال) الكردي القومية والمتشرب بالثقافة العربية في خطابه الافتتاحي بأننا ‘نعيش فصلاً ربيعاً حقيقياً، ينبض فيه ربيع افتراضي’ مشيرا إلى الخطوات السياسية والجسورة التي اتخذها رئيس الوزراء نوري المالكي مستهدفاً الخارجين على القانون، وإلى هذا الحدث الثقافي الذي يقوده ‘المثقف العراقي الكردي المستعرب ثقافياً’ كما نعت الرئيس الطالباني فخري كريم. إنك أمام شخصين يجسدان الوطنية العراقية بمحتواها الإنساني الرائع والنبيل متخطية الانتماءات القومية والدينية والطائفية. وتشعر وكأن الناقد الأدبي والرومانسي الفرنسي الشهير أناتول فرانسوا (Jacques Anatole François Thibault 1844 -1924)، الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1921 كان يتحدث عنهما حين قال بأنه ‘بدون حب حقيقي للإنسانية لا يوجد حب حقيقي للوطن. فالوطن هو جزء من الإنسانية، ولا يمكن فصله عنها..’. وليس هما فقط. فغادة العاملي العربية الشيعية هي المصممة الرئيسية لكامل أسبوع المدى، وغادة جوني المسيحية هي المرتبة لكل التسهيلات اللوجستية وثالث سني ورابع صابئي، وهذا شيوعي وذاك قومي وهنا رجل دين وهناك مستقل سياسي.. كلهم يعملون معا في بوتقة أسبوع المدى الثقافي، أو، قل صورة عراق المستقبل الذي يبنى اليوم.



هذه الأيام بالذات تشكل مرحلة عبور العراق الحقيقي نحو الدولة الوطنية العراقية التي لا يريد لها المحتل الأميركي ولا الإرهابي القاعدي أو الصدري أن تترسخ. وكما سمعت من حميد مجيد موسى الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي فإن الوحدة الوطنية هي فقط التي تقوي الموقف الوطني الوطني أمام الاحتلال وتوفر المستلزمات المادية والسياسية والنفسية غير ضروري وغير ممكن. كما أن الخطط الحالية لترميم الحكومة القائمة بانضمام جبهة التوافق وآخرين إليها، والنزوع إلى انتهاج سياسة تنبع من المصالح الوطنية أولا، ورفض جماعات الصحوة السنية لوجود ونشاط منظمات القاعدة، ورفض أعداد متزايدة من الشيعة للنشاطات الإرهابية التي يمارسها التيار الصدري، ومحاربة الدولة بحزم لهذين الاتجاهين المتطرفين حتى تجريدهما من السلاح أصبح يعطي للدولة طابعها الوطني العام ويعطيها بالتالي هيبتها اللازمة أمام المجتمع.



وكما قال محدثي، المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية جلال الماشطة، ونحن في السيارة إلى أحد أنشطة الأسبوع بأنه إذا كان وضع البصرة الأمني قد استتب فإن الأهم هو أن المزاج العام قد انتقل من حالة رفض الدولة إلى حالة رفض ‘اللا دولة’ على طريق القبول والمطالبة بسيطرة الدولة هناك.



هذه الدولة أصبحت تحظى بتزايد تضامن أشقائها العرب. وكما سمعت من السيد الماشطة فإن مبادرة جلالة ملك البحرين بإعادة فتح السفارة في بغداد جعلت له مكانة خاصة في نفوس العراقيين لا يحتلها إلا أول القادمين.


[1] فخري كريم، ‘لكي لا أستقيل من هذا الوطن’، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى .2008





الوقت 12 مايو 2008