المنشور

حال الخدمات الصحية العربية (2 ــ 4)


لعل من الدول العربية القريبة منا التي نجحت في تبني نظام للتأمين الصحي العام المتطور دولة الإمارات، وتفيد الأنباء الأخيرة حيث من المتوقع ان يصل عدد المسجلين في الشركة الوطنية للتأمين “ضمان” أكثر من مليون نسمة في أبوظبي وحدها. وتقوم هذه الشركة بتسديد 70 مليون درهم شهريا الى المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية والخاصة نظير علاج حاملي وثائق التأمين الصحي الصادرة عن شركة “ضمان”، ويحدد الاشتراك الشهري طبقاً لمستويات مرتبات الموظفين، وبعد ان تم تطبيق النظام بشكل تجريبي وناجح في المرحلة الراهنة فمن المتوقع الدخول في المرحلة الأخيرة لتطبيق النظام بشكل الزامي.
لا تتوافر بين أيدينا بطبيعة الحال المعلومات المفصلة حول مزايا أنظمة التأمين الصحي العام المطبقة في بعض البلاد العربية كما في الإمارات وكما تزمع مصر تجريب نظام جديد نموذجي من أنظمة التأمين الصحي. لكن وبغض النظر عن مزايا وسلبيات كل نظام فإننا نعتقد أنه حري ان نتدارس على صعيدنا المحلي البحريني الفكرة تمهيداً لتبني نظام صحي جديد يلائم خصائص وظروف مجتمعنا، وعلى الأخص من حيث اقتصادنا وأوضاع ومستويات الغالبية العظمى من فئات شعبنا المعيشية.
ولربما ساهم نظام جديد كهذا على الأرجح في تخفيف الوضع المأساوي الكارثي الذي تشهده خدماتنا الصحية التي هي الآن على حافة الانهيار الشامل بفعل عوامل عديدة متشابكة في مقدمتها الضغوط المتزايدة بفعل زيادة السكان وزيادة أعداد الممنوحين الجنسية البحرينية على هذه الخدمات، في مقابل بقاء هذه الخدمات على حالها من حيث أحجامها الاستيعابية ومن حيث مستوى تطورها تقريبا، وذلك منذ نشأة مؤسسات الخدمات الصحية منذ نحو سبعة عقود اللهم الزيادات الطفيفة في أعداد هذه المؤسسات وفي تطورها بما في ذلك أعداد الأطباء وهي زيادات لا تتفق على أي حال مع الطفرات السكانية المتتابعة، ناهيك عن ان أغلبها محصورة في المراكز الصحية الصغيرة لا في اعداد المستشفيات بشتى أنواعها وتخصصاتها.
ولعل من مظاهر هذا الوضع الكارثي في الخدمات الصحية الذي ينذر بالانهيار والذي برزت محاولات برلمانية خجولة وغير جادة لمواجهته مافيات الفساد المستفيدة من وضع تداخل وتشابك الطب الخاص مع الطب العام على وجه الخصوص والتي يدخل في عدادها أيضا التلاعب في صرف الأدوية بمختلف أشكاله سواء من خلال حصول أعداد كبيرة هائلة من “المواطنين” على أدوية دونما حاجة إلى ذلك وقيام أعداد هائلة منهم ببيع كميات هائلة في مواطنهم الأصلية العربية، أم من حيث اختفاء العديد من الأدوية المهمة بل الاعتيادية بسبب ليس ذلك النزيف في ضبط النزيف والذي تشهده صيدليات المؤسسات الصحية العامة فحسب، بل تعمد الأطباء والمسئولين النافذين عدم استيراد الكثير من الأدوية المهمة الغالية الثمن كوسيلة لاحتكارها وترويجها في السوق المحلية والتي لا يقدر على دفع أثمانها سوى الطبقات الميسورة.
وبسبب هذا الوضع المتردي للخدمات الصحية من جراء الفساد المزدوج الإداري والتجاري الصحي داخل المؤسسات العامة الصحية نفسها تدنى مستوى الخدمات الصحية داخل هذه المؤسسات نفسها وازدادت الأخطاء الطبية على نحو غير مسبوق والتي يذهب ضحاياها العديد من المرضى المواطنين والمقيمين، في مقابل عدم وجود اعتراف بهذه الأخطاء والتقليل من شأنها من قبل الإدارة الصحية، وبخاصة في ظل تواطؤ أطباء نافذين يفترض فيهم الدفاع عن حقوق الأطباء والمرضى معاً مع الإدارة في تبرير هذه الأخطاء والتهوين من شأنها حتى سمعنا بعضهم يرفض النعت الذي أطلقه الزميل النائب عبدالله الدوسري على أكبر هذه المؤسسات وأقدمها بـ “المقصب” وكأن لو لم يصفه بهذا الوصف على بشاعته يغير من حقيقة الوضع المأساوي الكارثي الذي تشهده الخدمات الصحية في هذه المؤسسة الصحية الكبرى التي تعالج الغالبية الساحقة من مواطني البلاد والوافدين والمقيمين فيها وهي تنوء عن حمل الجبال، حتى انه آن الأوان لتكريم مصاعدها الشحيحة المتقادمة المتهالكة.
ومن مظاهر التلاعب في صرف الأدوية والتجارة فيها أيضا ضلوع أطباء عديدين في كتابة روشتات أدوية بعينها لأغراض ترويجية تسويقية يتقاضون اتاوات عليها من شركات الأدوية ووكلائها وهي قضية سبق ان تناولتها صحافتنا المحلية، أو قيام أكثر العيادات الخاصة بتجزئة العلاج على مراحل متعددة لغرض استنزاف المريض ماليا من خلال رسوم دخوله المتكرر على هذه العيادات، ناهيك عن استنزافه بالأدوية والعلاجات كالعمليات الجراحية المختلفة التي لا ضرورة لها، وكل ذلك يجري بالطبع في ظل غياب سلطة رقابية صحية صارمة على مؤسسات الطب الخاص نظراً لأن القائمين على أكثر هذه المؤسسات هم أنفسهم أو أقاربهم من إداريي وأطباء المؤسسات الصحية العامة.
وإذا كانت دولة متقدمة مثل نيوزيلندا يقر تقرير رسمي صدر عنها هذا العام أن الأخطاء الطبية أدت الى مقتل 40 مريضا وإصابة 142 مريضا بأمراض أخرى من جراء تلك الأخطاء خلال عام واحد وفي هذه الدولة التي تمتلك مثل هذه الشفافية يتمتع مواطنوها بحقوق للتقاضي والتعويض فهل يعقل أن خدماتنا الصحية أكثر تطوراً من نيوزيلندا؟ مهما يكن فإننا نعتقد أنه آن الأوان وبصورة سريعة ملحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لانتشال خدماتنا الصحية العامة من حافة الانهيار العمل على: أولا: فصل تداخل وتشابك الطب العام عن الطب الخاص بكل صوره وأشكاله ولنا في الأردن وربما دول عربية أخرى عديدة قدوة في ذلك، فالأردن كما صرح مسئول صحي كبير زار البلاد منذ بضعة شهور بأن الطبيب يخير إما العمل في الطب الخاص وإما في الطب العام وعدم الجمع بين الاثنين بأي صورة من الصور. ثانيا: التوسع في إنشاء المراكز والمستشفيات الحكومية الكبرى وزيادة أعداد الأطباء والممرضين. ثالثا: إيجاد مؤسسات رقابية فاعلة داخل الإدارة العامة الصحية لضبط صرف الدواء ومتابعة مستويات العلاج وأداء الأطباء وتشجيع الكفوئين ومنحهم الحوافز على نحو نزيه شفاف ومحايد. رابعا: دراسة وضع مشروع للنظام الصحي العام للمساهمة في ضبط وتطوير الخدمات الصحية التي من شأنها أن يستفيد منها جميع المواطنين والمقيمين بمختلف فئاتهم طبقاً لخصائص وظروف البلاد الاجتماعية.
 
صحيفة اخبار الخليج
11 مايو 2008