­

المنشور

الأول من مايو بمذاق بحريني

أثناء متابعتي‮ ‬لأخبار الأول من مايو وطريقة الاحتفاء به عالميا،‮ ‬فإن كل بلد وحركة عمالية لها مذاقها الخاص ونكهتها المميزة‮. ‬ففي‮ ‬الوقت الذي ‬يموت فيها العمال من رصاص الشرطة ويواجهون مصيرهم المجهول بعناوين مختلفة،‮ ‬كانت البحرين تحتفل هذا العام بنكهتها الجديدة منذ أن أصبح الأول من مايو حقا ثابتا وعطلة وطنية ورسمية في‮ ‬البلاد،‮ ‬وتمتع الناس بالتسوق والنوم العميق بل واللامبالاة في‮ ‬اغلب الأوقات،‮ ‬دون أن‮ ‬ينسوا في‮ ‬ضمائرهم وقلوبهم أنهم في‮ ‬هذا اليوم‮ ‬يتمتعون بيوم‮ ‬يخص الطبقة العاملة،‮ ‬وبأن الأول من مايو حدث عالمي‮ ‬له تاريخه وقصصه النضالية المريرة‮.‬
وسيأتي‮ ‬اليوم الذي‮ ‬يتحول فيه الأول من مايو إلى كرنفال مختلف المذاق بدلاً‮ ‬من النار والرصاص؛ فليس بالضرورة أن‮ ‬يكون العمال عنواناً ‬للعنف والشغب والمواجهات عندما‮ ‬يجدون حقوقهم ومطالبهم تم تحقيقها،‮ ‬بل وتمت بعض المنجزات التاريخية،‮ ‬فالعجلة الإنتاجية والنهضة والتنمية لا تشاد إلا على أكتاف منتجة وصادقة،‮ ‬فلماذا لا تسعد هذه الطبقة المنتجة والفاعلة في‮ ‬رفاهيتنا وتنميتنا بيوم ترقص وتغني‮ ‬فيه،‮ ‬بل وترسل برقياتها وهتافاتها للسماء ولإسماع كل من‮ ‬يسرقون الخبز من أفواه الناس،‮ ‬لمن‮ ‬يحفرون في‮ ‬ضلوع مجتمعنا الفساد والسرقات‮.  ‬كانت النكهة البحرينية حلما لم أشهده لأكثر من ثلاثين سنة أو تزيد،‮ ‬وكنت أتمنى أن أكون حاضرا بين تلك اللوحة الواقعية الجميلة من دون رتوش مصطنعة ولا أصابع سوداء مقيتة تشوهه‮. ‬في‮ ‬هذا العام من شهر مايو كانت الصدفة قضاء عطلة سياحية في‮ ‬البحرين،‮ ‬فصارت عطلتي‮ ‬عطلتين والمناسبة مناسبتين،‮ ‬الأولى حضوري‮ ‬في‮ ‬الوطن،‮ ‬والثاني‮ ‬أن زوجتي‮ ‬رغبت أن ترى الأول من مايو في‮ ‬بلد خليجي،‮ ‬وكانت البحرين تعنيها دائما ورائحتها في‮ ‬قلبها وكيانها،‮ ‬فذهبنا معاً‮ ‬للمشهد الجميل،‮ ‬وهناك رأيت أصدقاء برائحة القدم وبزيتهم وعرقهم الأقدم والجميل،‮ ‬كان التاريخ حاضرا والألم مجسدا في‮ ‬نماذج لم‮ ‬يتعبها الحلم من ملامسة قوس قزح في‮ ‬يوم مغبر احجب حموة الشمس إلا شمس الحرية المشتهاة منذ زمن الرواد الأوائل في‮ ‬أوال الوطن الذي‮ ‬لا‮ ‬يحب الجعجعة والمزايدة‮. ‬
كان هناك جليل عمران‮ ‬يجرجر عصاه كما كان‮ ‬يجرجر حلمه،‮ ‬وعندما ذهبت لأعانقه قائلا‮ »‬إن هذا هو‮ ‬يومك وعرسك وأنت الأجدر بالاحتفال به،‮ ‬فكثيرون لا‮ ‬يعرفون كيف قاسيت من اجل هذا الفرح‮«‬،‮ ‬فقال لي‮ »‬نحن لم نفعل شيئا إلا من اجل هؤلاء الصغار،‮ ‬ولم نفعل شيئا من اجل أنفسنا‮«‬،‮ ‬طال الحديث بيننا وقلت له الكثير كما كان‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يقال بين مساحة الحلم واللحظة التي‮ ‬نعيشها‮. ‬كان هناك العواجي‮ ‬يجرجر‮ “‬كرشه‮” ‬ولكنه كان خلف جسده‮ ‬يحتضن قلبه ويستعيد الساحات والألم وكل ألوان الهتاف التي‮ ‬قيلت ولم تقل بعد،‮ ‬ولكن الصغار سيحتفلون بها‮ ‬يوما‮. ‬
رأيت بناتنا اللاتي‮ ‬أصبحن أمهات وتركت لنفسي‮ ‬الصمت دون أن اذهب لهن جميعا لكونهن منشغلات بولادة أخرى الأهم في‮ ‬حياتهن من كل مخاض،‮ ‬فمخاض الأول من مايو ولادة عظيمة،‮ ‬فهل‮ ‬يغفر لي‮ ‬إسماعيل العلوي‮ ‬إن لم أتكلم معه كثيرا؟‮! ‬لكوننا منشغلين باللحظة الجميلة وكان علينا أن نتبادل عبارات خاطفة كنا نتبادلها سرا‮ “‬كل عام وأنت بخير‮”‬،‮ ‬مفردة ظلت سرا في‮ ‬جلسات الأمس المكتوم بالظلام والاستبداد،‮ ‬ولكن تبقى في‮ ‬الوجدان دون إباحة واستباحة وهتك للدم‮. ‬
كان مذاق الأول من مايو‮ ‬يبكي‮ ‬زوجتي‮ ‬وهي‮ ‬تسلم على من تعرفهم،‮ ‬فقلت لها لماذا هذه الدموع؟ فقالت انك تعرفني‮ ‬ولا تنظر في ‬عيني، ‬فدعني ‬ابكي‮ ‬كما أشاء فليس للفرح مواعيد كهذه اللحظة بأن أرى البحرين تحتفل بحق تأخر كثيرا ولكنه جاء مع الزمن،‮ ‬هذا الزمن الذي‮ ‬جعلنا نجر شعرنا الأبيض وعكازاتنا ونظارتنا فلا نرى إلا الفرح ولا نسمع إلا أصواتاً‮ ‬تهتف‮ “‬يا مسؤول‮ ‬يا مسؤول‮.. ‬اسمع الملك شيقول”، وقد قال الملك كثيرا للذين‮ ‬يواصلون الفساد ويفصلون النقابيين ويمارسون العسف والتهديد مع‮ ‬غيرهم ويلعبون بالأوراق ببيروقراطية متطورة وخبيثة بهدف إنهاك إرادة العمال لكي‮ ‬يجبروهم على التراجع والتنازل عن حقوقهم التاريخية،‮ ‬بل ويمارس المسؤولون ضغوطا خلف مكاتبهم ظنا منهم أنهم‮ ‬يعيشون الليل القديم واستبداده‮. ‬وعلى الرغم من أن الأول من مايو أصبح عطلة رسمية وعلى الرغم من كل القوانين والإجراءات والتشريعات المعلنة لصالح العمال وعلى الرغم من ولادة نقابات عمالية الواحدة تلو الأخرى،‮ ‬يواصل السرطان فعله في‮ ‬هتك جسد الطبقة العاملة سعيا منه لتفتيت وحدتها،‮ ‬فإن الوعي‮ ‬الجديد‮ ‬ينمو ويتعلم ويمضي‮ ‬في‮ ‬مجراه ويتعثر،‮ ‬ولكنه‮ ‬ينهض كما هو الفجر الجديد‮. ‬
لم‮ ‬يتعلم الطغاة الصغار من تجارب الماضي‮ ‬ويواصلون عنتهم،‮ ‬ولكن الإرادة والوعي‮ ‬والصبر مفتاح للدخول للقلاع المغلقة التي‮ ‬لا ترغب في ‬قراءة الواقع البحريني‮ ‬الجديد،‮ ‬الواقع الذي‮ ‬كانت نكهته هذا العام‮ “‬مايو ‮٨٠٠٢” ‬أن‮ ‬يأتي‮ ‬في‮ ‬مناسبة مهمة هي‮ ‬تأسيس الاتحاد العام لعمال البحرين،‮ ‬ويأتي‮ ‬مع ميثاق جمعية الصحفيين البحرينية التي‮ ‬رفعت شعاراً‮ ‬مناهضاً‮ ‬لكل من‮ ‬يحاول تمزيق نسيجنا الاجتماعي‮ ‬الوطني،‮ ‬شعار في‮ ‬يوم الاحتفال العالمي‮ ‬لحرية الصحافة‮ “‬صحافيون ضد الطائفية‮”‬،‮ ‬وترافق مع حدثين رائعين‮ ‬يهمان الطبقة العاملة البحرينية قبل‮ ‬غيرها،‮ ‬فمع صحافة حرة عادلة ستجد طبقتنا العاملة حجرا أساسيا‮ ‬يدافع عنها فوق مسرح الإعلام،‮ ‬والحدث الآخر على لسان وزير العمل حول التوجيه السامي ‬بإقامة نصب تذكاري‮ ‬للعامل البحريني‮ ‬في‮ ‬احد الميادين الرئيسية في‮ ‬البلاد،‮ ‬وبذلك‮ ‬يحمل الخبر من الدلالات والمغزى الجديد في‮ ‬مسيرتنا التنموية وبوضع الطبقة العاملة أمام خياراتها الجديدة وبتأكيد الجهات الرسمية أن عمال البحرين هم عنوان نهضتنا،‮ ‬وبأن سواعدهم هي‮ ‬سواعد الوطن الحقيقية‮. ‬
هتافات هنا وهناك ورسائل بعثتها طبقتنا العاملة لكبار المسؤولين كان جوهرها وأغلبها هو مكافحة الفساد ومواجهة الغلاء وبضرورة النظر في ‬الأجور وكل ما‮ ‬يهم معيشة الناس المثقلين بأعباء الخبز وشبح الغلاء،‮ ‬ولكن أجملها الصالح لمطلع أغنية شعبية تلك المفردة الجميلة عندما وصلت مسيرة الأول من مايو لمجلس النواب هتف العمال باعثين للنواب‮ “يا نواب السيارات‮”،‮ ‬فتذكرت الأغاني‮ ‬والمسرحيات الرحبانية بل وتخيلت النواب على‮ “‬سياكل‮” ‬فمازحت بعض الأصدقاء لحظتها‮ “‬يا هيفاء‮ ‬يا هيفاء رقصتينا‮ ‬يا هيفاء جننتينا‮ ‬يا هيفاء‮”،‮ ‬فقد كانت هيفاء حاضرة، وكان النائب عادل العسومي‮ ‬يمازح النائب المرزوق بسخرية‮ “اسمع ماذا‮ ‬يقولون عنك‮ (‬يا نواب السيارات‮)”،‮ ‬فرد عليه‮ “‬أنت عندك سيارة”؟؟ وفي‮ ‬الحقيقة لم اعرف نوعية السيارة فأنا متخلف في‮ ‬هذا المجال‮. ‬نشكرهم أنهم حضروا المسيرة ولكننا نتمنى أن‮ ‬يدافعوا عن أصحابها وهو المهم،‮ ‬فالبروتوكول الاستعراضي‮ ‬وظيفة انتخابية،‮ ‬ولكن الدفاع عن مصالح الناس واجب نيابي‮. ‬ومع اختلافي‮ ‬معهم‮ ‬يبقون هم خيار الناخبين‮! ‬أليست هذه هي‮ ‬الديمقراطية؟
 
صحيفة الايام
11 مايو 2008