المنشور

في ذكرى رحيل المفكر جمال حمدان


مرت الذكرى الخامسة عشرة لرحيل المفكر المصري جمال حمدان بصمت مطبق، وبسكون كسكون القبر.. ومثلما غضت الدولة الطرف والنظر في احياء ذكرى رحيل خيرة مفكريها وعباقرتها الدكتور الراحل جمال حمدان، فان مؤسسات المجتمع المدني لم تكلف نفسها عناء القيام بأبسط الواجبات الوطنية والمبدئية والاخلاقية ازاء هذا الحدث المهم. ومن هنا ظلت ذكرى رحيل المفكر والعالم جمال حمدان متسمة بالتجاهل والنسيان.. ولعل الادهى من ذلك كله هو تجاهل الدولة فداحة تلك الاخطاء التي ارتكبتها ادارة الجامعة في حق المفكر جمال حمدان الذي كان استاذا يحاضر فيها.. فداحة العسف والتعسف والمظالم التي لحقت به.. حينما همشته الجامعة ولم تنصفه في حقه ومكانته.. ولم تضع مؤهلاته وشهاداته على كفتي ميزان العدالة انسجاما مع كفاءته وتماشيا واستحقاقه وجدارته، في الوقت الذي جاءت فيه الكفة الراجحة في استئثار المنافع والمغانم لأولئك الاساتدة غير الاكفاء، الذين لا يخضعون لمعايير الكفاءات، وانما بمعايير المكافآت.. كما ان حصولهم على الترقيات والمناصب والامتيازات والدرجات، لم تأت بمقاييس المواطنة الحقة طبقا لمبدأ الحقوق والواجبات، بقدر ما جاءت تحت تأثير مظاهر الوجاهة والمحسوبية في تقريب المتملقين والمتسلقين والانتهازيين.
من هذا الواقع الموجع للجامعة، أبى الاستاذ جمال حمدان أن يرتضي المهانة، ورفض استلاب الكرامة، محافظا على عزة النفس ونزاهة المهنة وشرف المكانة العلمية والادبية والانسانية والاكاديمية.. الامر الذي دفع به إلى ان ينطوي على نفسه في شقته وفي صومعته طوال عشرين عاما، منذ عام 1973م حتى رحيله في منتصف ابريل 1993م. ولكن على الرغم من رحيل هذا المفكر العملاق الذي رفع راية وطنه وهامات شعبه بشموخ.. فإن الدولة لم تعِد حساباتها في البحث عن أسباب رحيله.. بقدر ما تجاهل مجلس الشعب المصري (البرلمان) بفتح أي ملف للتحقيق مع ادارة الجامعة التي كان يعمل لديها الراحل جمال حمدان، من أجل اخضاعها للاستجواب والمساءلة، لما تمخض عن استشراء الفساد الاداري والاخلاقي في أوساط الجامعة آنذاك، الذي راح ضحية هذا الملف من الفساد خيرة أبناء مصر وأحد عظمائها ومفكريها وعباقرتها (جمال حمدان).
ولعل ما يبعث على القول: اسفا انه بمرور الذكرى الخامسة عشرة لرحيل المفكر والعالم الدكتور جمال حمدان، فان الدولة، بل جامعاتها الاكاديمية ومختلف مؤسسات المجتمع المدني، لم تشعل حتى شمعة واحدة من بين الخمس عشرة شمعة، من أجل احياء ذكرى رحيل هذا الانسان العظيم.. هذا المفكر بمصداقية مواقفه وشفافية افكاره واستنارة عقله، الذي حمل حقيبة وطنه في قلبه ووجدانه وما بين جوانحه.. لم يغره المنصب العلمي أو الشهرة أو السمعة الشخصية أو دائرة الاضواء الاعلامية.. ولم يستقطب بعوامل الجذب والهجرة للخارج من أجل العائد المادي والاقتصادي والمنصب العلمي، أو من أجل الامتيازات والتسهيلات الاجتماعية والعلمية والسياسية.. بقدر مواجهته عوامل الدفع، حينما تجاوز عذاب القهر السياسي داخل الوطن بمعاناة الاغتراب الاجتماعي، وتشظي الاغتراب الذاتي وآلام الاغتراب الداخلي، مثلما ناضل ضد سياسة المضايقة و”التطفيش” التي تضاربت فيها بشاعة القهر والاستلاب بمصادرة حرية الرأي وحرية الفكر وحرية الكلمة، وامتهان الكرامة وكسر القلم.. فخرج هذا المفكر الكبير بالتالي منتصرا على مستبديه، شامخا على جلاديه، بحسب ما استحوذ بالمقابل على حب وتقدير شعب مصر، بل شعوب الوطن العربي قاطبة بهالة من التبجيل والتعظيم.. حينما ابدع هو في عزلته وانتج في صومعته اعظم موسوعة حملت في جوهرها خلاصة افكاره العلمية والانسانية التي كشفت عن نهج علمي وسياسي وأدبي وجغرافي وايديولوجي، وهي موسوعته (شخصية مصر) التي من خلالها سعى إلى ارتقاء شخصية مصر وحضارة مصر ببصمات مشرفة واستشراف مستقبل شعب مصر بعلامات مضيئة.. فجسدت بالتالي تداعيات ومفاهيم وفلسفة موسوعته (شخصية مصر) ولاء صاحبها ومؤلفها، لوطنه (جمهورية مصر العربية).. وعكست شهرته بولائه لمواطنيته، وارتباطه بتراب أرضه، والوفاء لوطنه.
من هذا المنطلق استحق المفكر والعالم الدكتور جمال حمدان ان يكون احد عظماء الانسانية، وواحدا من عباقرة البشرية.. طالما تجلى بأمانة رسالته المهنية والاخلاقية.. ولكون الصفات الانسانية والمبدئية والوطنية والقومية والفكرية المميزة توافرت فيه، وتجلت في اغواره ومكنوناته وبين ثنايا عقله وجنبات تفكيره.. التي هي صفات تمثل استخلاص النتائج لآرائه ومعتقداته الفلسفية والسياسية وقيمه الاخلاقية والسلوكية الرفيعة نحو السمو والارتقاء.. فسلام على هذا الانسان العظيم برحيله، الذي ترك فراغا فكريا وعلميا وانسانيا لمفكر قلما يجود الزمان به في الزمن الصعب.. تلك الانجازات العلمية والمكتسبات الانسانية لجمهورية مصر العربية خاصة والوطن العربي قاطبة، التي دونها التاريخ بين صفحاته بأحرف من نور.. بحسب ما يظل اسم صاحبها المفكر والعالم (جمال حمدان) مضيئا في سجل الخالدين.
 
صحيفة اخبار الخليج
9 مايو 2008