­

المنشور

إنتاج الموقف‮..!‬

لا أحد‮ ‬يختلف على أن الاستجواب الوزاري،‮ ‬باعتباره أداة للرقابة والمساءلة السياسية،‮ ‬حق كفله الدستور بقصد بسط الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية وأنشطتها‮.‬ ونعلم أن الاستجواب الوزاري‮ ‬يعد من أهم أدوات الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية،‮ ‬لما قد‮ ‬ينتهي‮ ‬إليه من طرح الثقة بالوزير المعني‮ ‬بالاستجواب،‮ ‬وسحب الثقة في‮ ‬حال ثبوت إدانته‮.‬
ونعلم بأنه أمام أهمية الاستجواب وخطورته فإن الدستور قد أحاطه بالعديد من الضوابط والقيود التي‮ ‬لا تجعله حقاً‮ ‬مطلقاً،‮ ‬بل حقاً‮ ‬مقيداً‮ ‬كسائر الحقوق،‮ ‬مقيداً‮ ‬بمراعاة شروطه الموضوعية وبصفة خاصة أن‮ ‬يكون منصباً‮ ‬على الأمور الداخلة في‮ ‬اختصاصات الوزير،‮ ‬وألا‮ ‬يكون متعلقاً‮ ‬بمصلحة خاصة بالمستجوب أو بأقاربه حتى الدرجة الرابعة،‮ ‬أو بأحد موكليه،‮ ‬ومقيداً‮ ‬بجوانبه الإجرائية التي‮ ‬رسمها المشرع والتي‮ ‬لا تجعل الاستجواب وسيلة شخصية للتهديد والانتقام،‮ ‬وإنما للرقابة وتحقيق الصالح العام‮.‬
من تلك الزاوية،‮ ‬فإننا نرى بأن هذا الذي‮ ‬جرى في‮ ‬مجلس النواب على صعيد استجواب الوزيرين الشيخ أحمد بن عطية الله،‮ ‬وتالياً‮ ‬منصور حسن بن رجب‮ ‬،‮ ‬أمر لا‮ ‬يمكن تجاهله،‮ ‬لأن ما جرى لم‮ ‬يعبر فقط عن تقاطع بلغ‮ ‬مداه بين أعضاء مجلس النواب لا نراه مسبوقاً،‮ ‬ولا نحسبه ملحوقاً،‮ ‬ولا نظنه فاعلاً،‮ ‬وإنما لكون ما قيل وما زال‮ ‬يقال في‮ ‬شأنهما وفي‮ ‬تداعياتهما لم‮ ‬يكن في‮ ‬الحسبان على الأقل عند من‮ ‬يحسنون الظن،‮ ‬لأن ذلك القدر الهائل من الضجيج المفتعل،‮ ‬والبلبلة التي‮ ‬خيمت علينا وما زالت جرّاء هذين الاستجوابين،‮ ‬لم‮ ‬يجعلنا نعرف بالضبط ما اذا كان هذا الذي‮ ‬جرى قد استهدف عن سابق اصرار وترصد خلخلة دعائم مبدأ الاستجواب الوزاري‮ ‬ومسلماته‮.‬
قد نتفق أو نختلف حول دوافع وحيثيات ومحاور وتوقيت هذا الاستجواب أو ذاك،‮ ‬وقد تتباين الرؤى وتتفاوت التقييمات حول جدية وصدقية ودوافع المستجوبين والصياغات المختلفة في‮ ‬التعامل مع الاستجوابين،‮ ‬ولكن من المؤكد أن هناك وقائع مؤسفة قرأناها ورأيناها وسمعناها وشعرنا بها أثارت قدراً‮ ‬كبيراً‮ ‬من الاشمئزاز والقلق،‮ ‬فانسياق كثير من النواب لمنطق التشويش والضوضاء،‮ ‬ولكثير من المزعجات من اجتراء وافتراء وتطاول ومناكفات شخصانية،‮ ‬ومناورات ومراوغات ومواقف جموحة في‮ ‬الإجمال‮ ‬غاب عنها العقل والمنطق في‮ ‬التعامل مع الاستجوابين وأهدرت قيمتهما،‮ ‬في‮ ‬صورة انشطار مفجعة بحد ذاتها بين النواب وكتلهم،‮ ‬خطيرة في‮ ‬دلالاتها وأبعادها،‮ ‬ومكمن الخطورة أنها جعلت الثوابت المتعلقة بالدور الرقابي‮ ‬للمجلس النيابي‮ ‬موضع جدل ومنازعة،‮ ‬وجعلت النواب‮ ‬ينزلقون مجدداً‮ ‬إلى ما‮ ‬يكرّس ويوظف الاصطفاف الطائفي ‬البغيض رغم الشعارات والرايات والمسميات والأساليب التي‮ ‬اتسمت بمناورات ومراوغات واضحة‮.‬
من حق أي‮ ‬كتلة من الكتل النيابية أن تستهدف وزيراً‮ ‬بعينه لا ترى فيه أهلاً‮ ‬للثقة والمسؤولية،‮ ‬ومن حق أي‮ ‬نائب أو كتلة أن تعارض،‮ ‬أو تؤيد وأن تثني‮ ‬على دفوعات أي‮ ‬من الوزيرين،‮ ‬وأن ترى في‮ ‬أي‮ ‬منهما ما تراه من مآخذ وتحفظات وتجاوزات وإدانات،‮ ‬ومن حقها كذلك أن تثير مواقف ‬يختلط فيها سوء الفهم مع سوء القصد‮.‬
ولكن ليس من حق أي‮ ‬نائب أو كتلة أن تدفع بمسار أي‮ ‬استجواب إلى منحى‮ ‬ينتهك حقوق أي‮ ‬نائب في‮ ‬الاستجواب،‮ ‬أو‮ ‬يجعل الاستجواب فاقدا ‬لقيمته ومضمونه،‮ ‬أو‮ ‬يدفع بالاستجواب الى الشخصنة أو الطأفنة أو فزعات تعصبية‮ ‬غير مبررة،‮ ‬فقد بدا واضحاً‮ ‬أن مجريات الأمور تجاه الاستجوابين لم تتسم بالبراءة المفترضة،‮ ‬بل بالمماحكات السياسية التي‮ ‬ضاعت فيها الفواصل بين الخطأ والصواب،‮ ‬بين الحق والباطل واللغة التي‮ ‬افتقدت في‮ ‬كثير منها اللياقة واللباقة،‮ ‬وجعلت الهواجس والـظنون البائسة تحط رحالها علينا لتغرقنا في‮ ‬العلل الوهمية والفعلية والمفتعـلة التي‮ ‬ارادت أن تئد هذا الاستجواب أو ذاك وهو في‮ ‬مهده،‮ ‬ودونمـا حاجة هنا إلى استعادة شريط الوقائع والمفاصـل التي‮ ‬جـرت بشأن الاسـتجوابين،‮ ‬إلا أن تداعياتهما كانت وما زالت مستفزة حقاً‮.‬
‮ ‬ليس لأن نواباً‮ ‬كثراً‮ ‬ظهروا وكأنهم في‮ ‬خصـومة وعداء لنـواب كثر آخرين في‮ ‬حـالة فريـدة‮ ‬غير مسبـوقة في‮ ‬أي‮ ‬برلمان آخر،‮ ‬صرفوا جهودهم وانشغلوا وشغلوا أنفسهم بانتقاد الفريق النيابي‮ ‬الآخر،‮ ‬وافتعلوا الكوابح لإعاقة استجوابهم،‮ ‬بل سفّهوا آراء زملائهم وباتوا‮ ‬يفتعلون معارك لا جدوى منها ولا طائل من ورائها ولا نهاية لها،‮ ‬وظلوا‮ ‬ينقبون عن الثغرات والفجوات والنواقص وكأنهم فريق دفاع رسمي‮ ‬عن الوزير المستجوب،‮ ‬ووقعوا بذلك في‮ ‬ذات الخطأ الذي‮ ‬يأخذونه على الفريق الآخر من مآخذ وإثارة الضجيج واستثارة المشاعر والغوغائية والاتهام بعدم الفهم الصحيح لمبدأ وحق الاستجواب‮.‬
واذا قبلنا ذلك على مضض،‮ ‬فإننا لا نقبل ولا نفهم اطلاقاً‮ ‬ذلك الفرح الغامر وروح الشماتة التي‮ ‬انتابت بعض النواب في‮ ‬كلا الاستجوابين، ‬مصورين لنا بأن ما حدث كان انتصاراً‮ ‬لكل وزير،‮ ‬وأن ردود كلاً‮ ‬منهما أصابت الاستجواب في‮ ‬مقتل،‮ ‬وإقرارهم مسبقاً‮ ‬ببراءة هذا الوزير أو ذاك وكأنهم ليسوا نواباً‮ ‬للشعب عليهم واجب تكريس مبدأ الاستجواب كحق دستوري‮ ‬رقابي‮ ‬للنواب نواجه به الفساد والمفسدين‮.‬
وسواء أكان وقوف نواب الوفاق مع الوزير بن رجب،‮ ‬أو ردة فعل الكتل النيابية الأخرى في‮ ‬حالة استجواب الوزير عطية الله قبل وأثناء وبعد الاستجواب،‮ ‬فإن كلا الاستجوابين أظهرا لنا خطأ ارتكبه النواب في‮ ‬عملية إنتاج الموقف السليم لا‮ ‬يليق بنواب في‮ ‬أي‮ ‬برلمان‮ ‬يحترمون عقول الناس أن‮ ‬يرتكبوه‮.‬
الظروف والأوضاع الراهنة تفرض على الذين‮ ‬ينتسبون إلى شرف تمثيل شعب البحرين أياً‮ ‬كانت كتلهم،‮ ‬ورؤاهم،‮ ‬وخلافاتهم الفكرية والسياسية، ‬أن‮ ‬يستعلوا فوق أي‮ ‬حسابات أو اعتبارات،‮ ‬وليس لأي‮ ‬نائب الحق في‮ ‬أن‮ ‬يقرر شروط اللياقة على الآخرين،‮ ‬أو‮ ‬يعطي‮ ‬لنفسه حق منحهم شهادات حسن سير وسلوك‮.‬
‮ ‬وأن لا‮ ‬يتعامل مع العمل النيابي‮ ‬بمنطق هذا معنا وهذا ضدنا،‮ ‬كل ما هو مطــلوب من كـل النـواب دون استـثناء أن‮ ‬يمـثلوا شعب البـحرين خير تمثيل،‮ ‬وإن كنا على قناعة تامة بأنه بات ملحاً‮ ‬نقل الاستجوابات من الغرف المظلمة إلى قاعة البرلمان لأسباب لا تخفى على ذوي‮ ‬الفطنة،‮ ‬فإننا كما كنا وما زلنا سنبقى على‮ ‬يقين بأن المجلس النيابي‮ ‬الذي‮ ‬يطالب بالإصلاح هو الآن أحوج ما‮ ‬يكون إلى إصلاح حاله‮..!‬

صحيفة الايام
9 مايو 2008