لا أحد يختلف على أن الاستجواب الوزاري، باعتباره أداة للرقابة والمساءلة السياسية، حق كفله الدستور بقصد بسط الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية وأنشطتها. ونعلم أن الاستجواب الوزاري يعد من أهم أدوات الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، لما قد ينتهي إليه من طرح الثقة بالوزير المعني بالاستجواب، وسحب الثقة في حال ثبوت إدانته.
ونعلم بأنه أمام أهمية الاستجواب وخطورته فإن الدستور قد أحاطه بالعديد من الضوابط والقيود التي لا تجعله حقاً مطلقاً، بل حقاً مقيداً كسائر الحقوق، مقيداً بمراعاة شروطه الموضوعية وبصفة خاصة أن يكون منصباً على الأمور الداخلة في اختصاصات الوزير، وألا يكون متعلقاً بمصلحة خاصة بالمستجوب أو بأقاربه حتى الدرجة الرابعة، أو بأحد موكليه، ومقيداً بجوانبه الإجرائية التي رسمها المشرع والتي لا تجعل الاستجواب وسيلة شخصية للتهديد والانتقام، وإنما للرقابة وتحقيق الصالح العام.
من تلك الزاوية، فإننا نرى بأن هذا الذي جرى في مجلس النواب على صعيد استجواب الوزيرين الشيخ أحمد بن عطية الله، وتالياً منصور حسن بن رجب ، أمر لا يمكن تجاهله، لأن ما جرى لم يعبر فقط عن تقاطع بلغ مداه بين أعضاء مجلس النواب لا نراه مسبوقاً، ولا نحسبه ملحوقاً، ولا نظنه فاعلاً، وإنما لكون ما قيل وما زال يقال في شأنهما وفي تداعياتهما لم يكن في الحسبان على الأقل عند من يحسنون الظن، لأن ذلك القدر الهائل من الضجيج المفتعل، والبلبلة التي خيمت علينا وما زالت جرّاء هذين الاستجوابين، لم يجعلنا نعرف بالضبط ما اذا كان هذا الذي جرى قد استهدف عن سابق اصرار وترصد خلخلة دعائم مبدأ الاستجواب الوزاري ومسلماته.
قد نتفق أو نختلف حول دوافع وحيثيات ومحاور وتوقيت هذا الاستجواب أو ذاك، وقد تتباين الرؤى وتتفاوت التقييمات حول جدية وصدقية ودوافع المستجوبين والصياغات المختلفة في التعامل مع الاستجوابين، ولكن من المؤكد أن هناك وقائع مؤسفة قرأناها ورأيناها وسمعناها وشعرنا بها أثارت قدراً كبيراً من الاشمئزاز والقلق، فانسياق كثير من النواب لمنطق التشويش والضوضاء، ولكثير من المزعجات من اجتراء وافتراء وتطاول ومناكفات شخصانية، ومناورات ومراوغات ومواقف جموحة في الإجمال غاب عنها العقل والمنطق في التعامل مع الاستجوابين وأهدرت قيمتهما، في صورة انشطار مفجعة بحد ذاتها بين النواب وكتلهم، خطيرة في دلالاتها وأبعادها، ومكمن الخطورة أنها جعلت الثوابت المتعلقة بالدور الرقابي للمجلس النيابي موضع جدل ومنازعة، وجعلت النواب ينزلقون مجدداً إلى ما يكرّس ويوظف الاصطفاف الطائفي البغيض رغم الشعارات والرايات والمسميات والأساليب التي اتسمت بمناورات ومراوغات واضحة.
من حق أي كتلة من الكتل النيابية أن تستهدف وزيراً بعينه لا ترى فيه أهلاً للثقة والمسؤولية، ومن حق أي نائب أو كتلة أن تعارض، أو تؤيد وأن تثني على دفوعات أي من الوزيرين، وأن ترى في أي منهما ما تراه من مآخذ وتحفظات وتجاوزات وإدانات، ومن حقها كذلك أن تثير مواقف يختلط فيها سوء الفهم مع سوء القصد.
ولكن ليس من حق أي نائب أو كتلة أن تدفع بمسار أي استجواب إلى منحى ينتهك حقوق أي نائب في الاستجواب، أو يجعل الاستجواب فاقدا لقيمته ومضمونه، أو يدفع بالاستجواب الى الشخصنة أو الطأفنة أو فزعات تعصبية غير مبررة، فقد بدا واضحاً أن مجريات الأمور تجاه الاستجوابين لم تتسم بالبراءة المفترضة، بل بالمماحكات السياسية التي ضاعت فيها الفواصل بين الخطأ والصواب، بين الحق والباطل واللغة التي افتقدت في كثير منها اللياقة واللباقة، وجعلت الهواجس والـظنون البائسة تحط رحالها علينا لتغرقنا في العلل الوهمية والفعلية والمفتعـلة التي ارادت أن تئد هذا الاستجواب أو ذاك وهو في مهده، ودونمـا حاجة هنا إلى استعادة شريط الوقائع والمفاصـل التي جـرت بشأن الاسـتجوابين، إلا أن تداعياتهما كانت وما زالت مستفزة حقاً.
ليس لأن نواباً كثراً ظهروا وكأنهم في خصـومة وعداء لنـواب كثر آخرين في حـالة فريـدة غير مسبـوقة في أي برلمان آخر، صرفوا جهودهم وانشغلوا وشغلوا أنفسهم بانتقاد الفريق النيابي الآخر، وافتعلوا الكوابح لإعاقة استجوابهم، بل سفّهوا آراء زملائهم وباتوا يفتعلون معارك لا جدوى منها ولا طائل من ورائها ولا نهاية لها، وظلوا ينقبون عن الثغرات والفجوات والنواقص وكأنهم فريق دفاع رسمي عن الوزير المستجوب، ووقعوا بذلك في ذات الخطأ الذي يأخذونه على الفريق الآخر من مآخذ وإثارة الضجيج واستثارة المشاعر والغوغائية والاتهام بعدم الفهم الصحيح لمبدأ وحق الاستجواب.
واذا قبلنا ذلك على مضض، فإننا لا نقبل ولا نفهم اطلاقاً ذلك الفرح الغامر وروح الشماتة التي انتابت بعض النواب في كلا الاستجوابين، مصورين لنا بأن ما حدث كان انتصاراً لكل وزير، وأن ردود كلاً منهما أصابت الاستجواب في مقتل، وإقرارهم مسبقاً ببراءة هذا الوزير أو ذاك وكأنهم ليسوا نواباً للشعب عليهم واجب تكريس مبدأ الاستجواب كحق دستوري رقابي للنواب نواجه به الفساد والمفسدين.
وسواء أكان وقوف نواب الوفاق مع الوزير بن رجب، أو ردة فعل الكتل النيابية الأخرى في حالة استجواب الوزير عطية الله قبل وأثناء وبعد الاستجواب، فإن كلا الاستجوابين أظهرا لنا خطأ ارتكبه النواب في عملية إنتاج الموقف السليم لا يليق بنواب في أي برلمان يحترمون عقول الناس أن يرتكبوه.
الظروف والأوضاع الراهنة تفرض على الذين ينتسبون إلى شرف تمثيل شعب البحرين أياً كانت كتلهم، ورؤاهم، وخلافاتهم الفكرية والسياسية، أن يستعلوا فوق أي حسابات أو اعتبارات، وليس لأي نائب الحق في أن يقرر شروط اللياقة على الآخرين، أو يعطي لنفسه حق منحهم شهادات حسن سير وسلوك.
وأن لا يتعامل مع العمل النيابي بمنطق هذا معنا وهذا ضدنا، كل ما هو مطــلوب من كـل النـواب دون استـثناء أن يمـثلوا شعب البـحرين خير تمثيل، وإن كنا على قناعة تامة بأنه بات ملحاً نقل الاستجوابات من الغرف المظلمة إلى قاعة البرلمان لأسباب لا تخفى على ذوي الفطنة، فإننا كما كنا وما زلنا سنبقى على يقين بأن المجلس النيابي الذي يطالب بالإصلاح هو الآن أحوج ما يكون إلى إصلاح حاله..!
صحيفة الايام
9 مايو 2008