المنشور

اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 ــ 4)

لعل الاحتفال عالميا باليوم العالمي لحرية الصحافة هو مناسبة يمكن انتهازها أيضاً لإلقاء نظرة سريعة عابرة على أحوال صحافتنا العربية بوجه عام والخليجية منها بوجه خاص، والبحرينية منها بوجه أخص.. وهي أحوال أظن لا يختلف اثنان على ما بلغته من ترد وتخلف، إن لم نقل انحطاط، قياساً بأحوالها على مدى عقود طويلة منذ ولادتها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى تخوم الربع الأخير من القرن الآفل (السبعينيات). والمفارقة أن هذا التردي آخذ في الازدياد طردياً كلما تقدم العالم في العلم والمعرفة ووسائل الاتصال، واستتباعاً كلما تقدمت نتيجة لذلك الصحافة العالمية.
إن غياب هامش الحريات الصحفية الكافي المنسجم مع تطورات العصر، كجزء من غياب الحريات العامة، ووقوع معظم صحافتنا العربية تحت هيمنة الدولة العربية الشمولية، أو شبه الشمولية، على اختلاف أنظمتها السياسية الجمهورية وغير الجمهورية، أو وقوعها تحت أسر الأحزاب المؤدلجة أو الجماعات والأفراد ذوي التفكير الشمولي، فضلاً عن فساد جل هذه المؤسسات الصحفية بالتوازي مع غياب تمتعها بالاستقلال الكافي سواء تجاه الدولة أو الأحزاب، أو تجاه الجماعة أو الفرد المسيطر عليها.. كل ذلك أدى الى هذا التخلف المطرد المريع الذي تشهده الصحافة العربية، وبضمنها صحافتنا الخليجية.

لذا ولما كان الحال هو كذلك فلا غرابة ألا تبرز من حياتنا الصحفية العربية نماذج من المؤسسات الصحفية المتميزة في الحريات الصحفية، ومن الصحفيين المغاوير الذين يتسابقون على خوض المغامرات الصحفية الحقيقية سواء من أجل الخبر المتفرد في مناطق الحروب وأعمال العنف، أم من أجل تدبيج الكلمة الحرة اللاذعة في نقد الفساد والقمع وممارسات العسف وانتهاك حقوق الإنسان مادامت المؤسسات الصحفية العربية التي يفترض بأنها ميكروسكوب كبير لكشف الفساد في المجتمع والدولة هي نفسها ينخرها الفساد من الداخل، ومادامت هي الناقدة لمصادرة حرية الكلمة والتعبير من قبل الدولة أو المؤسسات الاجتماعية النافذة، هي نفسها تصادر هذه الحرية تجاه كتابها وصحفييها.

ولكن ألا تقتضي الأمانة الصحفية القول في هذه المناسبة، مادمنا نتحدث عن اليوم العالمي لحرية الصحافة، إن صحافتنا البحرينية، وعلى الرغم من ريادة البحرين خليجياً في نشأة وتطور الصحافة، باتت اليوم هي في مؤخرة الصحافة الخليجية من حيث التدهور مقارنة بكل الصحافة اليومية بدول مجلس التعاون بلا استثناء؟ والمفارقة هنا في هذا التردي لا تكمن فقط فيما يشهده العالم من تطور في تقنية ووسائل الاتصال العالمية والذي أدى نتيجة لذلك إلى تطور الصحافة العالمية، بل تكمن المفارقة أيضا، كما قلنا، في ريادة البحرين صحفيا على مستوى خليجنا العربي، وفيما أضحت تتمتع به من هامش نسبي في حرية الصحافة غير مسبوق في ظل مرحلة الانفراج السياسي التي دشنها جلالة الملك مقارنة بما كان وضعها قبل ذلك، كما وتكمن المفارقة فيما شهدته الحياة الصحفية اليومية من ازدياد في عدد الصحافة المحلية حتى بلغ إجماليها 6 صحف في بلد هو أصغر البلدان العربية حجماً في المساحة والسكان.

ويمكننا أن نعدّد أبرز المظاهر الممثلة لهذا التردي المتفاقم الذي تشهده صحافتنا المحلية فيما يلي: 1ــ انضمام كوادر شبابية عديدة إليها، ولاسيما في المؤسسات الصحفية الجديدة منها، من دون أن تكون تمتلك الحد الأدنى من الموهبة والثقافة السياسية والإعلامية التي تؤهلها لاحتراف العمل الصحفي، وكل ذلك قد انعكس بدوره على المظاهر السيئة التي سنأتي على ذكرها تباعاً. 2 ــ تخلف في أسلوب صياغة الخبر و«الكبشن« وعناوين المانشيتات الرئيسية والفرعية والإخراج عموماً، وضعف في مستوى معظم الأعمدة اليومية أو الأسبوعية ومثلها المقالات وكثيرا ما ترى عنوان الخبر هو من الركاكة أو البهاتة الروتينية بما لا يعكس قوة وأهمية الحدث داخل متن الخبر، والعكس صحيح فكثيرا ما يأتي العنوان مثيراً جذاباً قوياً بينما متن الخبر لا يشي بحدث مهم أو غير اعتيادي. 3 ــ طغيان أسلوب الأدلجة أو التأدلج المسيّس الذي يتملك رئيس التحرير أو إدارة التحرير ليس فقط على المانشيتات وعناوين الأخبار الرئيسية وعلى الأخص المحلية منها، بل حتى على موضوعات الافتتاحيات الرئيسية، وبعض أعمدة الصحيفة اليومية للكتاب البارزين فيها. 4 ــ ترتيباً على ما يميز صحافتنا المحلية بدرجات متفاوتة من طغيان أدلجة اخبارها المحلية وفق أهواء وميول وأمزجة رؤساء التحرير فقد طغى عليها بقوة نتيجة لذلك أسلوب الردح اليومي، وانشغل أو تخصص عدد من كتاب الأعمدة اليومية بوظيفة هذا الردح والذي من مظاهره المناكفات والقذائف اليومية المتبادلة بين كتاب أعمدة هذه الصحيفة وكتاب أعمدة تلك الصحيفة، بدلا من التفرغ للوظيفة الأساسية للعمود في النقد والتحليل السياسي الموضوعي للأحداث المحلية والخارجية، وأخطر ما في مظاهر الردح هنا أن معظمه مسخر للتسعير الطائفي في المجتمع وإثارة النعرات المذهبية.
وأنت راجع معي كل الصحافة الخليجية، من دون استثناء، إن وجدت فيها هذا الحجم من مظاهر الردح والمشاجرات المسفة التي تسود صفحات كل أو معظم صحافتنا وإن بدرجات متفاوتة. وفي بعض الأحيان ينوب بعض كتّاب الأعمدة “المهرة” عن رؤساء التحرير لخوض حروب ردحية بالوكالة ضد بعضهم بعضاً. كما يتجلى ذلك في تناغم مانشيتات الصحيفة مع موضوعات تلك الأعمدة أو مع موضوع رئيس التحرير أو الافتتاحية. 5 ــ خضوع معظم أو كل صحافتنا التي تتباهى باستقلاليتها وهما لوصاية ورقابة الدولة وإن بدرجات متفاوتة، والأنكى من ذلك تلاعب كل إدارات ورؤساء التحرير بالهامش المتاح تبعاً ليس لأهوائهم وتوجهاتهم السياسية فحسب، بل تبعاً لقرابتهم وصلاتهم بالنافذين في الدولة والمجتمع والمؤسسات الاقتصادية، بحيث ترى بعض الصحف، رغم ما يطبع رؤساء تحريرها من أهواء وتعصب يمارسون أقصى الهامش المتاح في نقد الدولة وبعضهم يقلصه الى أدنى من الهامش المتاح ابتغاء مراضاة النافذين فيها. 6 ــ ضعف مستوى التحليل السياسي للخبر اللهم استثناءات محدودة جلها من الكوادر العربية. 7 ــ غياب أو تدني مستوى الكاريكاتير السياسي في الغالب الأعم لصحافتنا اليومية، وكذلك غياب ذائقة الوعي بأهمية الصورة سواء سياسية أم بيئية أم اجتماعية والعجز عن إبرازها في المكان المناسب. 8 ــ طغيان طوفان الأخطاء المطبعية والنحوية والاملائية بالجملة في كل صحافتنا، وربما الاستثناء الأقل في ذلك “أخبار الخليج” وهي شهادة غير مجروحة على أي حال لأن الجميع يقر بهذه الحقيقة.
 
صحيفة اخبار الخليج
5 مايو 2008