المنشور

مسيرة الأول من مايو.. العابرة للطوائف الجامعة للشعب العامل

‘مطارقكُم هُنّ جَرسُ الزّمانِ…. يُدَقّ فيسمعُ حتى الحَديدُ ‘
محمد مهدي الجواهري
تجسّدت الهموم الواحدة والغايات المشتركة لمُكوّنات المجتمع البحريني المعاصر في المسيرة العمالية السّامقة التي شهدتها شوارع العاصمة عصر يوم الخميس الفائت، الأول من مايو/أيار، في وضح النهار وللسنة السادسة على التوالي منذ التدشين الرسمي للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين سنة ,2002 كون عيد العمال السنوي عطلة رسمية وشعبية ويشارك فيه المواطنون عمال بلدهم – بشكل أو بآخر- في تظاهرة رائعة منسجمة تتسم بالانضباط والنظام والشعارات الواقعية الجامعة البعيدة عن التشنج الطائفي/المذهبي والنشاز المناطقي/الفئوي، الّلذين يعملان – كالسوس – في نخر مكونات مجتمعنا التعدّدي السّمح لغايات أنانية لا علاقة لها بالوطنية الحقّ!
ولعل مسيرة عمالية كهذه، تجوب شوارع الحاضرة ‘المنامة’ كفيلة بالتأثير الايجابي على الرأي العام وإرسال رسائل محدّدة إلى حِرفيي التفرقة ومهندسي التخريب من جهة وإلى الوعي الجمعي للمواطنين قاطبة من جهة أخرى، مفادها أن الطاعون الطائفي/المذهبي سيتناثر أشلاؤه آجلا، على صخرة الوحدة الوطنية المنبثقة من وحدة النسيج العمالي في مملكة البحرين الفتية!
تزامن موعد المسيرة العمالية بعد لأيٍ من التئام المؤتمر الأول للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، الذي قيل عنه الكثير من الآراء المتفاوتة، بين مَن ينشد المثالية المفرطة ومَن يفترض حياداً تاماً غير مُسيّس واستقلالية. إلى آخر المعزوفات الصادقة، لكنها القادمة من باب الرغبات والأماني، التي لا توجد أصلا في الحياة الواقعية، المتّسمة بالنّدية وهيمنة الأقوى والالتزام الفكري والعقائدي للعناصر النقابية كونهم مواطنين يحملون بالضرورة فكراً سياسياً أو عقائدياً حتى وان لم ينتموا – فرضاً- إلى أية جمعية سياسية. في هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أنه لا يهم كثيراً، مَنْ هي القوى السياسية المسيطرة الآن على الجسم القيادي وذلك لأنه من الطبيعي أن تتصارع الجمعيات/ الأحزاب السياسية على أهم مفاصل الحياة الاقتصادية والإنتاجية في المجتمع (اتحاد عمال البحرين) بُغية السيطرة والحضور، المرهونين بقوة كل جهة سياسية ومكانته في خريطة ميزان القوى في المجتمع في الوقت الحاضر. لكن كون الاتحاد العمالي مدرسة كبرى لتهذيب النقابيين الأكفاء المخلصين، بُغية تطويرهم، وعياً، تفانياً وموقفاً، والذين لابد أنهم سيكتشفون لاحقا ضرورة الوعي والبصيرة الطبقيين المنطلقين من الرؤية العلمية الصحيحة بمنأى عن الانتماءات الفرعية الأخرى سواء كانت تعود لطائفة أو قومية. فالعمال بطبعهم والتصاقهم اليومي بعملية الإنتاج وبهموم الحياة وشموليتها هم أمَمِيّين بالسليقة. ولعل ‘وحدة الحركة العمالية’ و’الإخلاص للمصلحة العمالية’ هما القيمتان الأساسيتان اللتان يجب أن لا تفارقا مخيّلة النقابيين ولو للحظة واحدة بل يجب أن يحافظوا عليهما كما يحافظون على بؤبؤة أعينهم!
لعل أهم التحديات الموجودة الآن على أجندة الأمانة العامة الجديدة للاتحاد تتلخص في ملفات صعبة، لا تتحقق إلا بالتضامن والوحدة العمالية وبالتعاون والتنسيق مع مختلف قنوات الضغط المجتمعي والمجتمع المدني إضافة إلى السلطة التشريعية بهدف إقناع الحكومة، بضرورة الالتزام بالمواثيق الدولية والعربية والتصديق على الاتفاقيات الملزمة مثل بند 135 المعني بحماية النقابيين من الفصل والمضايقة الوظيفية والمهنية. البند 87 المعني بالحريات النقابية وبحق التشكيل النقابي في مؤسسات الدولة المحمي أساسا بمرسوم ملكي بقانون رقم 33 والبتّ القانوني فيه بغية إبطال تعميم ديوان الخدمة المدنية المناهض والمعارض (يا للغرابة) للمرسوم الملكي المذكور! إضافة إلى الأولوية القصوى لمحاولة تحقيق وشرعنة الحدّ الأدنى للأجور المتصاعدة بنفس نسبة التضخم السنوي، الأمر الذي يصبّ في مصلحة مختلف قطاعات المجتمع حيث تحافظ القوة الشرائية على وتيرتها المعتادة مما يعزز الوضع الاقتصادي و يصب في الاستقرار الاجتماعي المنشود.
لعله من المفيد للقارئ الكريم، أن نمر سريعا على نبذة تاريخية عن السبب الذي كان وراء اختيار هذا اليوم – بالذات للاحتفال – عيداً تقديرياً وتضامنياً، على مستوى العالم، لكادحي العالم ومنتجي الخيرات المادية الحياتية. لعل الصدفة التاريخية وحدها (وما أكثرها) كانت وراء اختيار هذا اليوم، الذي لا علاقة له بأية أفضلية وتقديس له أو سواه من الأيام.. فأيام التاريخ متشابهة!
يقال إن الفكرة وُلدت في أصغر القارات ‘أستراليا’، التي كانت تاريخيا عبارة عن سجنٍ كبيرٍ لعتاةِ متمردي بريطانيا وقد تكاثر هؤلاء المتمردون بأبناء وأحفاد، تحولوا مع مرور الزمن إلى عمال سخرة أسهموا في بناء القارة البكر. ويبدو أن درجة الاستغلال الطبقي كان مُرَكّزا لأسباب عديدة ولذلك استقوت الحركة العمالية المطلبيّة، التي كانت على رأس أجندتها ‘يوم عمل 8 ساعات’، الشعار الذي كان يعتبر في القرون السالفة اقرب إلى الجريمة! حدث أن قرر العمال هناك في استراليا في يومٍ من العقد السادس، القرن التاسع عشر (1856) تنظيم يوم احتفالي، دون أن يفكروا في حينه أن يُحتفل سنويا، ولكن فقط التوقف عن العمل في ذلك اليوم بمطلب وحيد، ‘يوم عمل 8 ساعات’. أصبح ذلك الهدف المطلبي والتاريخي الأول الذي حددته ‘الأممية الأولى’ التي تأسست في سنة 1864 في لندن. انتقلت الفكرة التضامنية والمطلبية كالنار في الهشيم إلى العالم الجديد/ قارة أميركا الشمالية، التي تحول إليها مركز الثقل العمالي السياسي والمطلبي من أوروبا سريعا مواكبا التحول الصناعي هناك، حيث تبناها المؤتمر الرابع لاتحاد المنظمات النقابية في الولايات المتحدة وكندا في سنة 1884 الذي عقد في مدينة شيكاغو، محددا يوم الأول من مايو 1886 موعدا للإضراب العام. وما حان الموعد إلا وتوقف في حدود ربع مليون عامل أميركي عن العمل في ذلك اليوم، خاصة في المدينتين الصناعيتين ‘شيكاغو’ و’بوسطن’، الأمر الذي تسبب في تدخل قوات الأمن وسريان القمع والمقاضاة القانونية والوقوف بحزم أمام أي تجدد مطلبي مماثل بعد أن اُعدم قادة الإضراب العمالي في ‘شيكاغو’ في نوفمبر/تشرين الثاني .1887 لكن سرعان ما تجدد المطلب الأساس – على أية حال- سنة 1888 في اجتماع حدد الأول من مايو من (1890) يوما خاصا مستمرا وسنويا للاحتفال التضامنيّ العالمي والمطلبيّ العمالي، الذي تزامن مع مؤتمر عالمي للعمال عقد في باريس، كان شعاره الأساس، ‘ثماني ساعات يوم عمل’ وبحضور أكثر من 400 مندوب من مختلف القارات. وما تلا ذلك من الإضرابات الكبيرة والمستمرة على مستوى العالم وانتزاع مطلب الـ 8 ساعات للعمل اليومي تباعا وفي سنوات لاحقة، بعد أن تحول الأول من مايو/أيار من كل عام إلى رمزٍ عمالي عالمي بقرار من مؤتمر’الأممية الثانية’ في يوليو/ تموز ,1899 أدى إلى التقليد التضامني السنوي السّاري حتى الآن، والذي سيظل بالطبع مادام التناقض بين العمل ورأس المال موجودأ على أجندة التاريخ البشري.

صحيفة الوقت
4 مايو 2008