المنشور

اليوم العالمي لحرية الصحافة (2 ــ 4)

لربما تكون الولايات المتحدة هي واحدة من أبرز الدول الديمقراطية الغربية العريقة التي ينال فيها الصحفيون تقديرا متميزا من الدولة والمجتمع لصيانة وحماية حقوقهم المهنية والسياسية بصرف النظر عن رؤاهم ومواقفهم السياسية، وبصرف النظر عن كل ما يؤخذ على هذه الدولة من ممارسات تناقض الحقوق الصحفية المكتسبة أو وجود قصور وعيوب في منظومة الحقوق والحريات الصحفية. يكفي ان نعرف ان الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم، على الارجح، التي يتمكن فيها صحفي من اسقاط رئيس دولة قبل ان يكمل حتى نصف مدته من الولاية الثانية، ألا هو الرئيس الامريكي الاسبق نيكسون الذي عندما تمكن بعض صحفيي الـ “واشنطون بوست” من كشف فضيحة تجسس الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه نيكسون على مقر الحزب الديمقراطي أثناء العملية الانتخابية التي انتهت باعادة انتخاب هذا الرئيس لولاية ثانية في أوائل سبعينيات القرن الماضي، فقد اضطر للاستقالة بعد تفاقم تداعيات الفضيحة.
أما عشاق المغامرات الصحفية الذين هم أشبه بمغامري متسلقي الجبال والبنايات الشاهقة والذين هم مولعون بتغطية أخبار بؤر الحروب والتوتر ومناطق أعمال العنف والارهاب، فجزء كبير منهم صحفيون أمريكيون كما نعلم. ومن التبسيط المخل اتهام جميعهم بأنهم مجرد مخبرين أو عملاء للسي. آي. ايه. وربما لا يمضي شهر الا ويسقط منهم على الاقل قتيل أو مختطف أو أسير أو جريح في مختلف مناطق بؤر الصراعات العسكرية وأعمال العنف في العالم ومثلهم بالطبع عديدون من دول غربية عديدة في العالم. واذا كانت مؤسسات البريد في جميع دولنا العربية حتى “الديمقراطية” منها اعتادت ألا تصدر طوابع بريد جديدة إلا لتكريم رجالات النخب والاسر الحاكمة، أو في بعض الاحيان لابراز معالم لبلدانها أو الاحتفاء بمناسبات محددة، فان مؤسسة البريد الامريكية هذا العام ادراكا ما لتكريم الصحفيين والصحافة الحرة من سمعة عالمية تكسبها الدولة الامريكية كدولة ديمقراطية اختارت عشية اليوم العالمي للصحافة تكريم خمسة من مشاهير صحفييها الذين ضحوا وأظهروا شجاعة استثنائية غير اعتيادية لتغطية أحداث عدد من المواقع الساخنة والحروب.
وجاء التكريم من خلال اصدار سلسلة من الطوابع البريدية التي تحمل صور المكرمين، وهم كل من: مارثا جيلهورون، وجون هيرسي، وجورج بولك، واريك سيفاريد، وروبن سالازار. علما بأن تكريمهم الذي تصادف مع عشية اليوم العالمي للصحافة انما جاء في اطار الاحتفالات بمناسبة مرور قرن على تأسيس نادي الصحافة. الصحفية جيلهورون على سبيل المثال كانت بمثابة مقاتلة صحفية في معارك الحرب الاهلية الاسبانية لتغطية أخبار هذه الحرب، ثم معارك الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام، والصحفي هيرسي كان من أبرز من تتبع الآثار الفعلية الخطيرة لجريمة بلاده بالقاء القنبلة الذرية على هيروشيما.
وهكذا اضطلع الصحفيون الثلاثة الاخرون المكرمون بمهام أخرى مماثلة جسور لا تقل خطورة. ولا أعرف لماذا لم يشمل التكريم صحفيي فضيحة ووترجيت الشهيرة فلربما سبق ان جرى لهم تكريم أو أكثر في مناسبات سابقة. مما لا شك فيه ثمة حوافز ودوافع شجعت هؤلاء الصحفيين الامريكيين وغيرهم على القيام بمغامراتهم الصحفية الخطرة لعل من أبرزها المناخ المتقدم في حرية الصحافة وما تملكه من ضمانات دستورية وتشريعية تكفل حماية هذه الحرية، علاوة واستتباعا لذلك انتماؤهم لمؤسسات صحفية كبرى عريقة وحرة ومتطورة وان كان كل ذلك لا يقلل من قيمة روحهم المقدامة على حب خوض المغامرة الصحفية وعدم المبالاة بعواقبها الوخيمة على حياتهم.. ولكن كل ذلك لا يبرر بأي حال من الاحوال غياب مثل هذه النماذج بالمطلق في صحافتنا العربية اللهم النزر القليل جدا.
ولعل الامانة التاريخية تقتضي في هذا المقام التذكير بالمغامرة الصحفية التي قام بها الزميل السابق في “أخبار الخليج” عدنان الموسوي حينما أقدم على مغامرة التسلل الى داخل الكويت أثناء الاحتلال العراقي للكويت عام 1990 لتغطية أخبار المقاومة الكويتية وجرائم هذا الاحتلال، ومن ثم العودة متسللا ثانية الى بلاده. وفي كل الأحوال ليس ما يميز حياتنا الصحفية العربية، بوجه عام وحياتنا الصحفية الخليجية بوجه خاص، غياب فقط مثل هذه النماذج الصحفية المقدامة المغامرة في تغطية أخبار مواقع الحروب وأعمال العنف والاضطرابات لأسباب عديدة موضوعية وذاتية، بل غياب المؤسسات والجهات التي تكرم الصحافة العربية والصحفيين العرب بناء على معايير موضوعية نزيهة متجردة لا معايير محسوبية وشللية ومتحيزة.
 
صحيفة اخبار الخليج
4 مايو 2008