المنشور

الذمة المالية‮..‬

صار بوسعنا في‮ ‬ظل هذا الحاضر المأزوم من كل جانب أن نشكك من جديد في‮ ‬جدية التعاطي‮ ‬مع مشروع‮ “‬الكشف عن الذمة المالية‮”.. ‬واذا كنا لا نجد‮ ‬غضاضة في‮ ‬أن تكون لجهات القرار حسابات واعتبارات وتحفظات وحساسيات حيال هذا المشروع،‮ ‬من بينها تلك الحساسية من عبارة‮ “من أين لك هذا؟‮” ‬التي‮ ‬ألغيت من المشروع،‮ ‬إلا أننا لا نستوعب اعتراض من اعترض من النواب على هذا المشروع تحت ذرائع حافلة بالرسائل والاشارات السلبية التي‮ ‬حتماً‮ ‬لا نتقبلها برحابة صدر،‮ ‬وتثير لدينا علامات استفهام وتعجب لا حصر لها،‮ ‬خاصة وأن هؤلاء النواب هم أنفسهم الذين جعلوا موضوع محاربة الفساد والحفاظ على المال العام وتفعيل قيم المحاسبة والمساءلة والشفافية في‮ ‬صدارة برامجهم الانتخابية،‮ ‬وهي‮ ‬القيم التي‮ ‬نعلم جيداً‮ ‬أنها لم تنل حتى الآن حظها من الحضور الكافي‮ ‬في‮ ‬ساحة الأداء العام‮.     ‬
نعلم جيداً‮ ‬كذلك أن مشروع قانون الذمة المالية قد مر بولادة متعسرة جداً‮ ‬منذ الفصل التشريعي‮ ‬الأول لمجلس النواب وحتى الآن‮. ‬ولنا أن نتحفظ بطبيعة الحال،‮ ‬على مسألة تحصين أي‮ ‬كان في‮ ‬السلطة التنفيذية من المساءلة،‮ ‬وهذا‮ ‬يشكل ثغرة في‮ ‬إرساء المملكة الدستورية وفي‮ ‬صيغة الممارسة الديمقراطية،‮ ‬ويجعلنا لا نتقدم على طريق تعزيز الرقابة وتأكيد جدية المساءلة السياسية للمسؤولين في‮ ‬الحكم في‮ ‬قطاعاته التنفيذية والتشريعية والقضائية‮. ‬وجدنا بأن الشبهة الدستورية إياها سوف تطارد هذا المشروع في‮ ‬مجلس الشورى الذي‮ ‬سيكون حائط صد آخر ضد المشروع‮. ‬وفي‮ ‬تصريحات لهم،‮ ‬بدت ملامح موقف الشوريين واضحة بحيث وجدنا نفس التحفظ،‮ ‬والذريعة المعرقلة أي‮ ‬الشبهة الدستورية،‮ ‬وحتى لا نقع في‮ ‬فخ التعميم نشير إلى حالة استثنائية أو أكثر عبر عنها أحدهم بالقول بأن القوانين المتعلقة بالكشف عن الذمة المالية هي‮ ‬الشرايين التي‮ ‬تمد قلب الديمقراطية بالدم وتمنع إصابة الديمقراطية بالذبحة الصدرية بصرف النظر عن المشمولين بهذا القانون‮.‬
لندع جانباً‮ ‬التباينات في‮ ‬الرؤى والتوجهات والتحفظات التي‮ ‬طرحت حول هذا الموضوع،‮ ‬وردات الفعل التي‮ ‬قد تحاط به من إبانة وإدانة وتأييد وإشادة لأسباب نحسبها معلومة للكافة ولا حاجة لنا للإفاضة فيها،‮ ‬لنتنبه إلى أنه بافتراض أن قانون الذمة المالية قد استطاع تخطي‮ ‬كل الذرائع المضللة وحواجز الصد المفتعلة وخرج الى النور سليماً‮ ‬معافى،‮ ‬فإن ذلك لا‮ ‬يجيز لنا الاعتقاد بأننا قد باشرنا في‮ ‬تفعيل قيم المساءلـة بقدر عالٍ‮ ‬من الكفاءة والهمة المطلوبة،‮ ‬وأن حساب المسؤولين سوف‮ ‬يتم بالصورة التي‮ ‬تحقق الحسم والحزم ناهيك عن الردع،‮ ‬لا نتصور هذا الوضع،‮ ‬فذلك سقف عالٍ‮ ‬من التوقع أو التفاؤل‮ ‬يصعب أن نتبناه أو نروّج له وذلك من واقع المعطيات والتعقيدات والتقاطعات الراهنة،‮ ‬وحتى من واقع ما نلحظه من طبيعة التعاطي‮ ‬مع قضية الفساد في‮ “‬ألبا‮” ‬التي‮ ‬يبدو أنها مفتوحة لكثير من الاحتمالات،‮ ‬خاصة بعد أن أعلن وزير المالية قبل أيام بأنه لا‮ ‬يستطيع الإفصاح عن مسار هذه القضية لحين الفصل فيها أمام المحاكم الأمريكية رغم أهمية هذه الخطوة‮.‬
إن المسألة المحورية الآن التي‮ ‬يفترض أن تتصدر أولويات الجميع،‮ ‬الحكومة والسلطة التشريعية وحتى مجلس التنمية الاقتصادية باعتباره معنياً‮ ‬بالشأن الاقتصادي،‮ ‬وأيضاً‮ ‬مؤسسات المجتمع المدني‮ ‬كونها هي‮ ‬الأخرى معنية بمحاربة الفساد،‮ ‬وأصبح من واجب الوجوب أن‮ ‬يكون هذا الهدف في‮ ‬قمة أولويات تلك الأطراف،‮ ‬لذلك لا نجد معنى ولا مسوغاً‮ ‬تعطيل قيمة المساءلة،‮ ‬وتحصين أي‮ ‬مسؤول اذا ما انحرف أو اخطأ أو أهمل،‮ ‬ولا مبرر لعرقلة ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يجعل القانون هو الفيصل وفوق الجميع،‮ ‬الكبير قبل الصغير،‮ ‬وإن كنا نعتقد بأن قانون الذمة المالية،‮ ‬أو من أين لك هذا؟ ما هو إلا شكل قانوني‮ ‬يوحي‮ ‬بمكافحة الفساد،‮ ‬ولن‮ ‬يكون فاعلاً‮ ‬ليس بالتطبيق الفعلي‮ ‬فقط،‮ ‬وإنما بتوافر آليات عديدة توقف تغلغل قيم الفساد وممارساته‮. ‬وإذا كانت هناك جدية في‮ ‬الإصلاح فيجب أن‮ ‬يخلق ذلك حالة رفيعة من المسؤولية التي‮ ‬تفرض دوام المراقبة المحاسبة وإلا سنظل نزرع الحصرم،‮ ‬ولن نجني‮ ‬سوى المر‮..!!‬

صحيفة الايام
2 مايو 2008