المنشور

مؤتمر الاتحاد العمالي الأول.. تدشين لانطلاقة جديدة

يحق لمواطني مملكة البحرين أن يفخروا بدور العاملين ومجمل القوى العاملة ويزفوا التهاني لعمال البحرين الأشاوس بنجاح مؤتمرهم الأول في ظل الشرعية القانونية وبحضور منقطع النظير من قبل الوفود العالمية، الأمر الذي يعزّز صِدْقية وحضور مملكة البحرين على الصعيد الدولي.
وهو نجاح يعتبر ثمرة نضال دؤوب دام عقود طويلة من التضحيات، دفع فيه عمالنا ليس العَرَق فحسب بل الدّماء التي سالت في المصانع وساحات الصراع الطبقي الموجود موضوعيا في المجتمعات. من المؤكد أن العمال هم أداة ومصدر تزايد الثروة المجلوبة من فائض القيمة، فبدون قوة عمل العمال ومشاركتهم لا تتوفر عملية تكديس لأية ثروة وتدوير لأي رأسمال!
تاريخ البحرين الحديث وتطوره اللاحق والمعاصر بدأ بالتشكيلات الأولية للعمال والكسَبة ضمن التغيير الكبير الذي حدث لقوى الإنتاج لدينا في القرن العشرين، من إنتاج بدائي في الحقل الزراعي ومهنة صيد وتجارة اللؤلؤ (عماد الاقتصاد البحريني في وقته) إلى تحول نوعيّ في مصدر الدخل الأساس وهو التنقيب عن البترول والغاز. لعل التحولات الجنينية الأولية للتقسيم المحليّ للعمل والنشوء الابتدائيّ لبروز طبقة جديدة على مسرح تاريخ الدول العربية المطلة على ساحل الخليج الغربي (طبقة العمال) يرجع لبدايات القرن العشرين في العقد الثالث منه تحديدا حيث الكساد العالمي والمحلي المتعلق بكساد تجارة اللؤلؤ وتحول العمالة من مصدريّ عبودية البحر وأقنان الأرض إلى عمال في ‘الجبل’ (الاسم الشعبي لشركة النفط) عند بدء الاكتشاف الأول للنفط في بداية الثلاثينات في جزر البحرين.
منذ ذلك الوقت، مع التحول الجمعي للمزارعين من أهل الريف والمدينة إلى عمال أجراء، بدأ الحراك السياسي لهذه الطبقة الجديدة بمشوار طويل ومضني للانتقال من حال إلى أخرى، من طبقة في ذاته إلى طبقة لذاته، الأمر الذي لم يتجسّد إلا في السبعينات من القرن الماضي، حينما وصلت قوة العمال السياسية في البحرين الذروة!
لم يكن بإمكان الطبقة العاملة إدراك قوتها النوعية وأهميتها الإنتاجية إلا بوعي قادم من خارج هذا الجسم، حيث أن الوعي الطبقي (أرقى أنواع الوعي الاجتماعي) يأتي من الخارج على يد الطليعة العمالية والمثقفين المتمكنين من علميّ الاجتماع والاقتصاد السياسيين. فالعلاقة بين هؤلاء(الطليعة) والجسم العمالي هي علاقة جدلية، من الممكن تشبيهها بالعلاقة بين سائق المركبة والمركبة، التي لا تستطيع الحركة بلا سائق والسائق لا قيمة له بلا مركبة! مرت النضالات العمالية بمراحل عدة من الصعود والهبوط وتخطت مشقات مضنية منذ نشوئها وتضحيات لا أول لها ولا آخر تلخصت مطالبها ضمن الحقوق الأساسية والمشروعة في الاعتراف الرسمي لنشوء الجسم العمالي المستقل كونه احد أضلاع مثل الإنتاج، العمال/ أرباب العمل/ الحكومة.
من هنا وضمن ضرورة البحث العلمي والدقيق للتطور التاريخي لتلك النضالات والبحث عن الجنود الأوائل المجهولين والمحاصَرين في تلك الفترة الصعبة من تاريخنا، الذين أسهموا في الحركات المطلبية الأولى والإضرابات في نهاية الثلاثينات وطيلة الأربعينات، مرورا بفترة حوادث 1954- 1956 وبداية الستينات وانتفاضة 1965 ثم الحركة المطلبية العمالية الجامعة في 1972 التي مهدت لأول تجربة برلمانية وتدشين وفرض الأمر الواقع للجسم النقابي وما تلتها من صعوبات في سنوات الجمر في الثمانينات والتسعينات حتى الألفية الثالثة. وقدوم مشروع الإصلاح والاعتراف الرسمي لأول مرة في العام 2002 بالجسم العمالي المستقل متجسدا في المؤتمر التأسيسيّ للإتحاد العام لعمال البحرين. أي أننا نتكلم عن نضال أكثر من 70 عاما من المسيرة العمالية المجيدة في البحرين.
صحيح أنه جرت الكثير من المياه في قنوات مجتمعنا، حدث تغيير كبير في التركيبة الطبقيّة في مجتمعنا، بدأ من منتصف السبعينات، حيث دُشن خطة الربح الريعيّ السريع والاعتماد شبه الكلي على العمالة الأجنبية الرخيصة، الأمر الذي أثر سلباً على التركيبة الوطنية للقوى العاملة من ناحية الكم، وانتهاءً في التسعينات حين بدأ الوعي الطبقي للعمال في التراجع من الناحية النوعية على حساب وعي غريب على البنية والسيكولوجية العمالية مجلوب من الانتماء الطائفي، بسبب تفاعلات وتداعيات الحوادث العالمية ونجاح الثورة الإيرانية وتعزيز المذهبية الدينية في إيران والمد الديني العام العارم الذي ما فتئت منتشرة حتى الآن، المالئ للفراغ الأيدلوجيّ، على اثر تفكك المنظومة الاشتراكية وتعثر برامج السلطات الشمولية القومية/ العروبية، حين أصبح طوق النجاة للناس العاديين هو الرجوع إلى السماء كونه أقرب الطرق للتمنيات!
يُشكّل المؤتمر الأول الحالي انطلاقة نوعية حقيقية في زمن الشرعية والوضع القانوني، بعد أن ظل العمل النقابي العمالي يُنظر إليه لعقود طويلة نظرة شك وريبة، بل تعرض – حتى الأمس القريب – لأشد أنواع القمع، نتيجة النظرة الضيقة السياسية للمطالب العمالية المشروعة. وقد دشن العمل الرسمي والقانوني لاتحاد عمال البحرين مع تحولات بلدنا ومجتمعنا في بداية الألفية الثالثة الإصلاحية، العملية التي لم تتوقف حتى الآن رغم التلكّؤ والتعثّر التي كانت لها أسباب موضوعية وذاتية، خارجية وداخلية. إلا أن محصّلة الخط الصاعد للتطور الايجابي لسير المجتمع منذ تدشين المشروع الإصلاحي، رغم لولبيته، تجعلنا نتفاءل وننشد خيراً، خصوصاً فيما يتعلق بفُرَص الحِراك الاجتماعي والسياسي المتوفرة للمواطنين رغم الضعف الذاتي الذي لا يطابق الظرف الموضوعي الايجابي المذكور.
توجد الآن على أجندة الأمانة العامة الجديدة للاتحاد ملفات، أهداف وغايات تنتظر التحقيق، تتسم جُلّها بالأولوية للخوض فيها تباعا ولا يمكن بالطبع الحصول عليها طواعية بلا منغصات، بل باستمرارية في المطالب وواقعية في الطرح وتفانٍ من قبل النقابيين. تبدأ بالأهم فالمهم، والممكن فالمحتمل تحقيقها. لعل أهمها الآن، تفعيل الحق النقابي في مؤسسات الدولة. تفعيل الحق النقابي والمطلبيّ في بقية المؤسسات الخاصة والعامة والكبيرة خصوصاً. تطبيق القانون النقابي الصارم على أرباب العمل وعدم تعرض النقابيين للملاحقة والفصل التعسفي المسنود أساسا بمراسيم ملكية وملاحقة من تسوّل له نفسه من مسؤولين – كباراً وصغاراً – في مضايقة النقابيين من القيام بواجبهم المهني والمطلبيّ، للمساءلة القانونية والجزائية، إن تطلب الأمر. إضافة إلى الأولوية القصوى لمحاولة تحقيق وشرعنة الحدّ الأدنى للأجور المتصاعد بنفس نسبة التضخم السنوي، ذي المردود الاقتصادي والاجتماعي.

صحيفة الوقت
27 ابريل 2008