المنشور

ديمقراطيات تحت التجريب‮ ‬

تشهد الأردن هذه الأيام حوارات ساخنة ومحتدة لقانون جديد حول ضرورة تعديل الأحزاب لوضعها القانوني‮ ‬وإلا سيتم مقاضاتها أمام القضاء‮. ‬ونص قانون الأحزاب على أن‮ ‬يكون الحد الادنى للأعضاء لتشكيل حزب سياسي‮ ‬بخمسمائة عضو فيما كان القانون السابق‮ ‬ينص على خمسين عضوا مما جعل الأردن معمل تفريخ لدكاكين من الأحزاب بلغت ‮٦٣ ‬حزبا لبلد لا‮ ‬يتعدى سكانه بضعة ملايين‭.‬‮ ‬
فهل تعتبر ظاهرة التقليص ظاهرة صحية أم إنها عملية قسرية لتقليص الأنشطة السياسية وإرغامها على‮ “‬الاندماج القسري‮” ‬بدلا من انطفاء شعلتها الحماسية المنطفئة أساسا بسبب كونها أحزابا قامت على أسس فئوية ودفع خارجي‮ ‬وواجهات سياسية لرموز وبلدان لم تنجح في‮ ‬انتشارها الجغرافي‮ ‬وكسب مؤيدين وأعضاء جدد إلى صفوفها مما‮ ‬يعني‮ ‬أن هناك خللا كبيرا تواجهه تلك الأحزاب‮ “الدكاكينية‮” ‬الطابع والنزعة‮! ‬حيث تحولت إلى مقرات أشبه بمقرات الأندية والجمعيات المهنية المشرعة أبوابها لشرب القهوة وتدخين الشيشة والثرثرة السياسية لا‮ ‬غير،‮ ‬فلم‮ ‬يعد أولئك الأعضاء الذين تقرفصت ركبهم بالروماتيزم قادرين على الركض بين الأحياء الشعبية والعمل في‮ ‬الأمكنة الحيوية النشطة كالمصانع والجامعات‭.‬
مثل تلك الأحزاب المتكلسة لا تجيد إلا صياغة بيانات الإدانة والتأييد بعد أن أصيبت بالترهل والضمور الفكري،‮ ‬بل وصار بعضها‮ ‬ينتظر العطاءات الخارجية،‮ ‬وعاشت على موائد الزعيم العراقي‮ ‬الراحل؛ فكانت تحج إلى بغداد صبحا ومساء وتلعلع أصواتها في‮ ‬الشوارع الأردنية،‮ ‬ولكن قيمتها‮ ‬يوم ذاك ظلت مرتفعة بسبب قيمة العراق في‮ “السوق السياسية‮” ‬وهيبة الزعيم العراقي‮ ‬وبركة دنانير النفط المتدفقة‮.‬
‮ ‬مثل تلك الأحزاب باتت‮ ‬يتيمة من كل الجوانب فكريا ودعائيا وماليا فهل أحزاب من هذا الطراز بإمكانها أن تعيش؟ تبدو لنا الإجابات واضحة وان كانت خلافية،‮ ‬نلمسها في‮ ‬أصوات الاحتجاج الموجهة إلى وزارة الداخلية بأنها تحاول دمج الأحزاب بهدف التقليل من تأثيرها في‮ ‬الشارع السياسي ”‬وان كان مصطلح التأثير‮!” ‬لا‮ ‬ينطبق عليها وإلا استطاعت أن توسع عضوية الحزبية لأحزابها خلال السنوات الماضية وتتحول إلى قوة فاعلة بدلا من ضمورها السياسي‮ ‬مجترة‮  ‬مقولة‮ “‬حق التعبير” ‬الدستورية لمجتمع بدت الديمقراطية فيه وليدة ومتعثرة تعيش حالة السؤال الدائم والاختبار السياسي‮ ‬في‮ ‬مختبر قبلي‮ ‬لم‮ ‬ينفض عنه‮ ‬غبار الصحراء ولم‮ ‬يخطُ‮ ‬نحو المجتمع المدني‮ ‬بالكامل؛ فظلت صورته المجتمعية مشوهة الملامح في‮ ‬استقلالها وحداثتها وتحولاتها المستمرة‭.‬‮ ‬
العلة الأخرى والأكثر تراجيدية هي‮ ‬الأحزاب القومية واليسار التي‮ ‬تراجعت كثيرا في‮ ‬جماهيريتها وأصبحت‮ ‬يتيمة ومهيضة الجناح‭.‬‮ ‬حيث عجزت تلك الأحزاب عن جذب الجيل الشاب إلى صفوفها والتي‮ ‬كانت‮  ‬ترفد الأحزاب بدماء جديدة‭.‬‮ ‬فقد كانت الحركة العمالية الشابة ومنظمات الشباب والاتحادات الطلابية منبعا خصبا لها‭.‬‮ ‬وقد‮ ‬غرقت الأحزاب المصابة بالشيخوخة في‮ ‬الخلافات الداخلية والانكماش الاجتماعي‮ ‬فعجزت في‮ ‬مرحلة الثورة المعلوماتية من كسب أعضاء جدد‮ ‬يحملون لها أجنحتها المتكسرة نحو الشارع السياسي‮ ‬فظلت الشيخوخة المتآكلة في‮ ‬مقراتها السياسية تتجاذب أحاديث الحنين السياسي،‮ ‬وتتصارع على مقاعد خاوية،‮ ‬وتتوق لبريق النجومية الكاذبة دون أن تجد لنفسها مكانا تحت الشمس؛ فلم تجد في‮ ‬القانون إلا تقليصا لسقف التعبير السياسي‮ ‬ويخفي‮ ‬في‮ ‬طياته السيطرة على الحركة السياسية في‮ ‬الأردن‭.‬‮ ‬فهل نوافق على كل ما فعلته السلطات دون تعليق أم نشارك الأحزاب على بكائيتها دون اعتراض؟
‮ ‬للموضوع أكثر من وجه فمن خلال الديمقراطية الأردنية كنوع من‮  ‬المختبر لسياسي‮ ‬مختبر للطرفين الحكومة والمعارضة في‮ ‬ذات الوقت،‮ ‬ففي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تحاول الحكومة تطويق أزمة ناشبة‮  ‬في‮ ‬ساحة سياسية‮ ‬يعلو صوتها مستنفرا وطاردا الاستثمارات سواء داخل البرلمان أو خارجه كان جدير بالأحزاب السياسية أن تنظر للقانون بايجابية فهو‮ ‬يحثها على الاستيقاظ من خمولها ونومها العميق في‮ ‬مقرات ميتة وخلافات شكلية،‮ ‬فتعيد حساباتها بشكل حيوي‮ ‬وصحي‮ ‬معتبرة ذلك القانون ظاهرة صحية،‮ ‬وتناقش فيه جوانب معينة أكثر من حالة الندب السياسي‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يخدم الحركة السياسية في‮ ‬الأردن التي‮ ‬أصبحت ظاهرة مرضية بتعدد الأحزاب‮ “‬الطفيلية”؛ فنعيد النظر في‮ ‬فكرة سؤال أكثر منطقية هل‮ ‬يستقيم هذا العدد الحزبي‮ ‬في‮ ‬بلد بهذه الكثافة السكانية؟ ما الذي‮ ‬استفادت منه الحركة السياسية في‮ ‬الأردن بتفريخ تلك الدكاكين الفارغة التي‮ ‬عجزت بشق الأنفس في‮ ‬العثور على خمسين عضوا لتسجيل اسمها رسميا؟
‮ ‬كان أجدر بالأحزاب أن تناقش الحكومة بتحسين الرقم إلى النصف والنقاش معها على سن العضوية بالثامنة عشرة بدلا من الواحد والعشرين فالإصرار على تقليص سن العضوية‮ ‬يساهم في‮ ‬رفع زيادة العضوية كما إن المساومة على نسبة محددة بالإمكان أن‮ ‬يعيد النظر لتلك الأحزاب في‮ ‬تنشيط حضورها السياسي‮ ‬مجتمعيا بدلا من إجادتها فن صياغة البيانات أو التوقيع عليها‭.‬
‮ ‬أخيرا نؤكد على ان الحكومة بذلك القانون كانت تقتفي‮ ‬الحكمة المعروفة‮ “‬حق‮ ‬يراد به باطل‮” ‬فإن الأحزاب المتباكية الهشة عليها أن تشكر الحكومة لكونها دقت في‮ ‬جسدها واذنها جرس الإنذار وذكّرتها بمقولة مهمة هي‮ “‬رب ضارة نافعة‮”‬إذ ستتعلم الأحزاب والحكومة ماذا‮ ‬يعني‮ ‬أن الديمقراطية في‮ ‬الأردن لا تزال في‮ ‬المختبر السياسي‮ ‬مثلها مثل كل أنواع التعبير‭.‬‮‬

صحيفة الايام
25 ابريل 2008