المنشور

شهادتان في صناعة الفقر والثراء (2-2)

اذا كان المندوب السعودي السابق في اليونسكو محمد الديبان قد فضح في مقاله الذي استعرضنا اهم ما جاء فيه بالأمس نفاق مليارديرية بلاده وكشف تهافت ادعاءاتهم بالتبرع للأعمال الخيرية، كما فضح الدوافع المنفعية التي تقف وراء تبرعهم حتى بما يجودون من فتات، فإن الكاتب السعودي عيد الجهني رئيس مركز الخليج العربي للطاقة يكشف في مقال له بصحيفة “الحياة” السعودية عدد 1/3/2008م جوانب مهمة من الاسباب الرئيسية التي ادت الى موجة الغلاء الراهنة في دول الخليج ودور الحكومات والتجار في صنع الازمة واستغلالها للاحتكار وعدم التورع عن المضاربة في اسعار المواد الغذائية من دون وازع ضمير وطني وانساني وديني وذلك في ظل غياب الرقابة المشددة على التلاعب بالأسعار. يقول الجهني: ان وتيرة ارتفاع اسعار المواد الغذائية الاساسية التي يعتمد عليها الفقراء ومتوسطو الدخل كقوت يومي ارتفعت بنسب مرتفعة لم يشهد لها مثيل حتى في ظل الكوارث التي حلت بالبشرية خلال القرن العشرين، وان هناك ما لا يقل عن 76 مليون فقير عربي يكتوون بنيران هذه الاسعار، وبخاصة في ظل اعتماد العالم العربي على اكثر من 90% من حاجاته الاساسية من الخارج. واذ يفند الجهني ذريعة دور ارتفاع اسعار النفط في خلق موجة التضخم والغلاء الراهنة والتي يلقيها الغرب جزافاً فإنه يكشف عن أن نسبة مساهمة النفط في حجم التجارة العالمية لا تتجاوز 8%، وان القيمة الحقيقية لسعر البرميل لا تتعدى 40 دولاراً اذا ما اخذنا بعين الاعتبار فارق اسعار الصرف بعد هبوط قيمة الدولار. وهنا يميط الجهني اللثام عن دور دول الخليج، ولاسيما التي تربط عملتها بالدولار، في التسبب في خلق المشكلة، كما يحذر الجهني من عواقب بقاء هذا الارتباط المقدس بالدولار الذي يشبهه بـ “الزواج الكاثوليكي” منذراً بالنتائج الكارثية التي تحدق بدول الخليج. ويعرج الجهني على دور آكلي السحت من التجار في تأجيج الأزمة من خلال استغلالها للمضاربة في الاسعار وممارسة الاحتكار بقصد فرض الاسعار المرتفعة التي ترضي جشعهم، ويستشهد بخطيب المسجد الحرام الشيخ اسامة خياط الذي قال: “ان من اسوأ الوسائل واخبثها واشدها ضرراً الاحتكار بقصد رفع الاسعار، ولاسيما في اقوات الناس الضرورية التي لا يستغني عنها احد”. ويجزم الجهني بأن لا أحد يستطيع انكار وجود محتكرين، وبخاصة في ظل غياب قوانين رادعة ومفعلة تنزل بهم اشد العقاب في هذه الظروف الضنكية الصعبة التي يرزح في ظلها السواد الاعظم من شعوب المنطقة. وفي ظل استمرار مثل هذه الأوضاع المأساوية الكارثية وتفاقمها يبين الجهني كيف تآكلت الطبقة الوسطى فما بالنا بحال الفقراء والمعدمين وحيث وصلت البطالة الى 60% في عدد من الدول العربية، وازداد عدد الاغنياء جنباً الى جنب مع زيادة الاعداد الهائلة من الفقراء وتعددت الاحتكارات وانفلت ضابط الامن الغذائي وتوفير الدواء بالأسعار المناسبة؟ ثم يستشهد الجهني بخطبة لإمام المسجد النبوي الشيخ علي الحذيفي يستشهد فيها بحديث للرسول (ص) في تحذيره للتجار “ان التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق”. ويختتم الجهني مقاله بالمطالبة مرة اخرى بفك الارتباط بالدولار والاستعاضة عن ذلك بسلة من العملات، ويطالب بتطبيق رقابات صارمة على الشركات والمؤسسات والتجار لمراقبة اسعار السلع والادوية وعدم المغالاة في رفعها من قبل ضعاف النفوس والمحتكرين. وفي مقالة اخرى لنفس الكاتب في صحيفة “الحياة” (عدد 5/4/2008م) يكشف دور الفساد في مراكمة هذه الثروات غير المشروعة وهو الدور الذي يفضي بالنتيجة – كارتفاع الاسعار والاحتكار – الى زيادة اعداد الفقراء. اي اننا امام ماكينة جهنمية واحدة لصناعة ظاهرتين متلازمتين في آن واحد، الأولى: زيادة اعداد الاثرياء مع ازدياد ثرواتهم الخرافية، والثانية: زيادة مطردة في اعداد الفقراء مع ازدياد معدلات بؤسهم وشقائهم اكثر من السابق. ويحذر الجهني في مقالته هذه المخصصة عن الفساد تحت عنوان “حتى لا يتحول الفساد في الوطن العربي الى كارثة” من ان الفساد اذا استشرى اصبح آفة تهدد الاقتصاد والتنمية وتضر بالبلاد والعباد، وتجعل الطريق ميسوراً لسيطرة فئة قليلة على اموال الدول والشعوب بغير وجه حق، لذا ينبغي ان يكون عقاب المفسدين قاسياً لكي يكون رادعاً. ولا يغفل الجهني عن حقيقة مهمة تعد من العوامل الموضوعية الرئيسية في خلق البيئة الصالحة لنمو الفساد وانتشاره وتتمثل فيما تلعبه الشركات الغربية الكبرى من دور في افساد الضمائر من خلال الرشاوى التي تدفعها للمتنفذين في القطاعين العام والخاص للفوز بالمناقصات الوهمية لترسو عليها وحدها في ظل غياب اجهزة رقابة وأنظمة ملزمة للشفافية. واذا كان الجهني قد استشهد بما حققه ديوان المراقبة السعودي من نجاح عام 2007م باستعادة مليار ريال سعودي جرى اختلاسها من خلال الفساد في الدولة واُكتشفت مصادفة بفضل “الرقابة اللاحقة” متسائلاً: فماذا عن الرقابات السابقة؟ مومئاً بذلك الى ان ما خفي اعظم، فإن هذه الضبطيات والاستعادات تكاد تكون في بقية اقطار مجلس التعاون شبه معدومة. والحال ان الجهني ورغم عمق تحليله السياسي الاقتصادي في كشف اسباب ازدياد الثروات بفضل المغالاة في رفع الاسعار والاحتكار والفساد وهي تؤدي بدورها الى صناعة الفقر فاته تناول دور غياب الديمقراطية او غياب تعميقها وتطويرها في خلق كلتا الصناعتين: الثراء الفاحش والفقر في آن واحد، وكلتاهما تهددان السلم الاجتماعي بأوخم العواقب في المجتمعات الخليجية المنكوبة بهما.
 
صحيفة اخبار الخليج
16 ابريل 2008