المنشور

الحركة الطلابية العراقية…. تاريخ حافل ونضالات مشهودة…

لعبت الحركة الطلابية العراقية ولعقود عديدة أدوارا نضالية متميزة في تاريخ الحركة الوطنية عموماً. وقد تنوعت هذه الأدوار واتخذت أشكالاً متعددة تتناسب وطبيعة الصراعات السياسية ألقائمه في كل فتره من فترات التاريخ السياسي العراقي الحديث. وكان لتأثير الحركة الوطنية الكبير على الطلبة كونهم جزء من النسيج الوطني العراقي دوراً كبيراً في بروز نضالات الطلبة الوطنية والتي تجاوزت المطالب المهنية لهم. وقد تجلى ذلك في مساهماتهم في الاحتجاجات والتظاهرات والإضرابات الجماهيرية ذات الطابع الوطني العام .
يمكن القول بأن النضالات الطلابية المهنية والوطنية على حدٍ سواء وحتى عام 1948 قد اتخذت الطابع العفوي وأسلوب رد الفعل غير المنظم، ولعل السبب في ذلك يعود إلى خلو الساحة الطلابية من التنظيم الطلابي الذي يؤطر هذه النضالات وينظمها ويوجهها التوجيه الصحيح .
إن حالة النهوض الوطني للحركة الوطنية العراقية مجسدةً بأحزابها الوطنية آنذاك قد انعكست بشكل كبير على الوسط الطلابي وقد برز هذا الانعكاس جلياً في مساهماتهم الفعالة في وثبة كانون المجيدة عام 1948 وتقديمهم الشهداء الخالدين (شمران علوان، قيس الآلوسي، جعفر الجواهري) حيث مهد ذلك إلى تأسيس أول تنظيم طلابي عراقي تحت أسم ( اتحاد الطلبة العراقي العام ) وكان ذلك في 14 نيسان 1948 حيث احتضنت ساحة السباع وسط بغداد وبصورة علنية متحدية السلطات مندوبين من المدارس والمعاهد والكليات العراقية وبحماية عماليه وبحضور الجواهري الكبير الذي أستذكر في قصيدة ألقاها في الحضور أخيه شهيد الوثبة جعفر الجواهري .
أخذ النضال الطلابي بشقيه المهني والوطني بعد تأسيس الاتحاد يسير بالاتجاه الصحيح ويأخذ الطابع المنظم مدعوما من الأحزاب الوطنية والمنظمات الجماهيرية الأخرى، إلا أنه وبالرغم من تأسيسه العلني اتجه إلى العمل السري شأنه شأن الأحزاب الوطنية والمنظمات الجماهيرية الأخرى وذلك لحملة الاعتقالات الشرسة التي قامت بها السلطات آنذاك والتي شملت الكثير من ناشطي الأحزاب الوطنية والديمقراطية وناشطي الاتحاد الذين كان لهم دوراً مهماً في وثبة كانون المجيدة.
لقد طبع النضال الطلابي وتنظيمهم الاتحادي الطابع السياسي في تلك الفترة على حساب الطابع المهني وهي حالة طبيعية نتيجةً للظروف الموضوعية السائدة آنذاك ولحماس الطلبة الوطني والثوري كونهم الشريحة المتعلمة في المجتمع. وقد تبلور هذا النشاط بمساهمة الاتحاد جنبا إلى جنب مع الأحزاب الوطنية والمنظمات المهنية الأخرى في انتفاضتي 1952 و1956. وقد برزت أهمية التنظيم الطلابي في انتفاضة 1956 للتضامن مع الشعب المصري بشكل واضح حيث تشكلت لجنه طلابية أخذت على عاتقها الإشراف على تعبئة الجماهير الطلابية وتنظيم فعالياتهم، وكان من جراء هذه الانتفاضة مواجهة العديد من الطلبة عقوبات الفصل والإبعاد والاعتقال، إلا أن كل ذلك لم يثني عزيمتهم أو يضعف حماسهم الوطني الوثاب.
لقد كانت الانتفاضات الشعبية المتلاحقة وروح التحدي لدى عامة الشعب بمثابة المقدمات الأساسية والضرورية لقيام ثورة 14 تموز 1958 المجيدة والتي هي محصلة طبيعية لهذا التحدي والنضال البطولي للعراقيين عامةً حيث سادت أجواء سياسيه جديدة تمثلت بمناخ ديمقراطي محدود وأتساع نسبي في مجال الحريات العامة، وكان لابد من أن ينعكس ذلك على الطلبة وتنظيمهم الاتحادي حيث استغل الاتحاد هذه الظروف الجديدة فبادر إلى عقد مجلسه الاتحادي عام 1957 بحضور الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم والقادة السياسيين إضافة إلى ممثل اتحاد الطلبة العالمي والذي كان الاتحاد عضواً فعالاً فيه حيث تم آنذاك تغيير اسم الاتحاد إلى ( اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية ).
وكعادتهم في تخريب كل جهد وانجاز وطني شكل البعثيون عام 1960 تنظيم (الاتحاد الوطني لطلبة العراق) والذي أحدث انشقاقا في الحركة الطلابية العراقية. ورغم ذلك استمر اتحاد الطلبة العام في نشاطه الطلابي والوطني الواسع حيث انتشرت فروعه في كل مدن العراق وظل مدافعاً أميناً عن حقوق الطلبة المهنية خصوصاً وحقوق الشعب عموما.
وفي 8 شباط 1963 جاء الانقلاب الدموي الذي قاده البعثيون ضد ثورة 14 تموز المجيدة حيث حولوا البلاد إلى سجون ومعتقلات كبيره يقبع فيها خيرة أبناء العراق ومناضليه، وكان لقادة اتحاد الطلبة العام وأعضائه ومناصريه نصيبا وافرا من تلك الهجمة الشرسة حيث قدموا الأعداد الكبيرة من الشهداء والمعتقلين دفاعاً عن ثورة تموز المجيدة ومنجزاتها الوطنية.
إن كل ذلك لم يثني من عزيمة الاتحاد حيث أستمر في نضاله السري محاولا لملمة جراحاته العميقة وإعادة بناء تنظيماته في الأوساط الطلابية وكانت ثمرة نضالاته هذه حصوله على نسبه كبيره من أصوات الناخبين قاربت التسعين بالمائة في الانتخابات الطلابية التي جرت عام 1966 وفي ظل الحكم العارفي وهي نسبه كبيره قياساً بالوضع السياسي في البلاد ووضع الاتحاد بشكل خاص .
وبعد انقلاب تموز 1968 الذي أعاد البعثيين إلى السلطة مجددا، عاد معه الاتحاد الوطني لطلبة العراق محاولاً فرض سيطرته على الساحة الطلابية وبدعم من أجهزة السلطة المدنية والأمنية، إلا أن اتحاد الطلبة العام واصل نضاله وفي ظروف سريه صعبه مساهماً فعالاً في الأنشطة الطلابية والوطنية . ورغم انبثاق ما سمي بالجبهة الوطنية عام 1973 إلا أن عمل الاتحاد بقي سرياً حيث واجه منتسبوه الكثير من المضايقات من قبل عناصر الاتحاد الوطني وبدعم من أجهزة السلطة الحاكمة. وفي عام 1975 وفي مسعى لاحتكار العمل المهني عموماً من قبل البعث الحاكم ومنظماته المهنية، فأنهم أصروا على تجميد نشاط اتحاد الطلبة العام والمنظمات المهنية الأخرى، مما جعل عمل الاتحاد يأخذ صيغ أخرى يغلب عليها الطابع السياسي. وللحقيقة والتاريخ لابد من الاعتراف من أن عملية التجميد قد ألحقت بالاتحاد ضرراً كبيراً وأضعفت من إمكانياته في التحرك في الوسط الطلابي إضافة إلى الاجتهادات والآراء المختلفة لدى منتسبيه حول عملية التجميد والتي ناقشها الاتحاد داخلياً بروح ديمقراطيه. وبعد انهيار تجربة الجبهة الوطنية المريرة تعرضت الأحزاب الوطنية والتقدمية عامه والحزب الشيوعي على وجه الخصوص إلى أبشع هجمة إرهابيه حيث تمت ملاحقة المناضلين وإيداعهم المعتقلات وإصدار الأحكام الجائرة بحقهم وتصفية وتغييب الكثير منهم ودفنهم في مقابر جماعية تم اكتشاف العديد منها بعد سقوط النظام الديكتاتوري، وقد تحمل الطلبة جزءاً من هذه الهجمة مما دفع الكثير منهم إلى ترك دراستهم متجهين للعمل السري فيما ألتحق قسم منهم فيما بعد بحركة الأنصار المسلحة في كردستان .
لقد كانت تجربة عمل اتحاد الطلبة العام في ظل الأنظمة المختلفة تجربة هامة وغزيرة وقد أفرزت الكثير من الدروس النضالية والتي لابد للاتحاد نفسه والحركة الطلابية عموماً من دراستها والاستفادة منها وإبراز جوانبها الإيجابية الكثيرة. لقد كان الاتحاد بحق مدرسة نضالية تخرج منها الكثير من الوجوه التي لعبت أدوارا مهمة في مفاصل الحياة في العراق سياسياً وثقافياً وعلمياً في الماضي والحاضر.
واليوم، وبعد سقوط النظام الديكتاتوري البغيض، تعيش البلاد أجواء سياسيه جديدة حيث هامش الديمقراطية النسبي والذي كان من نتائجه الكثيرة ظهور اتحادات طلابية جديدة في الساحة الطلابية وهي نتاج طبيعي للتعددية السياسية في البلاد والتي تجد لها امتدادات في الوسط الطلابي، ولكن يجب أن لا يدفع ذلك إلى أن تتحول هذه الاتحادات إلى فروع لهذا الحزب أو ذاك متخليةً عن دورها الحقيقي في الدفاع عن حقوق الطلبة المهنية، كما إن قوة هذا الاتحاد أو ذاك يجب أن لا تتأتى من قوة الحزب السياسي المؤيد له بل من مدى دفاعه عن الجماهير الطلابية وحقوقها المشروعة. لقد أثبتت التجربة العملية وبصوره لا تقبل الشك فشل محاولات احتكار العمل الطلابي لهذه الجهة أو تلك وما محاولات الاتحاد الوطني في هذا الخصوص إلا دليلاً على ذلك وعليه لابد من العمل الحثيث وروح الحرص على الحركة الطلابية العراقية من أجل تأسيس لجنة عليا أو شبكه للاتحادات الطلابية العراقية كما هو الحال في شبكة النساء العراقيات مثلاً تأخذ على عاتقها تنسيق وتنظيم النشاطات الطلابية المهنية والوطنية ولكي تلعب الشريحة الطلابية دورها الهام في المجتمع المدني .
إن الأهداف التي يناضل من أجلها اتحاد الطلبة العام في الظرف الراهن كثيرة، لعل من أبرزها التصدي للأفكار السلفية الإرهابية المتطرفة والوقوف بحزم أمام القوى الظلامية التي تحاول ومن خلال عناصرها ومليشياتها من التضييق على الحرم الجامعي وفي كافة الجامعات العراقية وتهديد أو قتل كل من يقف في وجههم طلاباً وأساتذة في محاوله مكشوفة لتفريغ الجامعات من الأساتذة الكفوئين المتحمسين لرفع المستوى العلمي للطلبة وجعله مواكباً للتطور العلمي السائد في العالم المتحضر. إن الاتحاد يناضل من اجل ديمقراطية التعليم ومجانيته وتهيئة برامج ومناهج دراسية حديثة وسد النواقص في المؤسسات التعليمية عامة وإكمال المستلزمات الدراسية من مختبرات وورش تطبيقية، كما يناضل أيضا من اجل حق الطلبة في تأسيس منظماتهم الطلابية وأجراء انتخابات حرة ونزيهة بعيداً عن التدخلات السياسية.
وأخيراً، لابد لنا في هذا اليوم التاريخي المشهود (الذكرى الستون لتأسيس اتحاد الطلبة العام) من استذكار أولئك الذين حفروا أسمائهم في تاريخ الحركة الطلابية العراقية واتحادها العام وعرفوا بنضالهم وإخلاصهم لقضيتهم. إن أعدادهم بالتأكيد كبيرة وكبيرة جدا لكنني سأتوقف أمام أسماء بعض الذين عرفتهم عن كثب وسأكتفي بكوكبة من الشهداء في بغداد والبصرة مع التقدير الكبير للأحياء من المناضلين الذين ربما أتخذ البعض منهم سبلا أخرى في حياتهم إلا إن دورهم آنذاك لا يمكن نسيانه على أية حال. ففي بغداد لابد من الوقوف إجلالا وإكبارا أمام الشهيد خالد يوسف متي الذي عرفته قبل قيام ما سمي بالجبهة الوطنية ضمن ثانويات بغداد الرصافة مناضلا كرس جل وقته للعمل الاتحادي ومن اجل إيجاد نواتات لتنظيم الاتحاد في مدارس أطراف بغداد، ولابد من استذكار الشهيدة ياسمين قاسم تقي، المناضلة المتسلحة بالوعي والثقافة والصلابة الكفاحية. أما في البصرة الفيحاء فلابد من الوقوف بإجلال أمام الشهداء، رضيه ياس خضير، سامي غياض، حسن مرجان، وافي كريم مشتت، عصام حسناوي كسار، جمال وناس والذين عرفتهم جامعة البصرة مناضلين أشداء عن حقوق الطلبة ومبادئهم السياسية. لابد لنا في هذا اليوم من أن نستذكر وبتقدير كبير(إيثار البصرة وخلودها)، إنها تلك الإنسانة الكبيرة والرائعة في كل شيء، لقد كان الجميع يستمد منها العزم والقوه حيث الابتسامة التي لا تفارقها في أصعب الظروف. لقد وقفت هذه الإنسانة التي أجهل مصيرها الآن أمام جلاديها بصلابة قل نظيرها واضعة مبادئها وقيمها العليا قبل كل شيء حيث كانت بحق رمزاً للمرأة البصرية المناضلة والتي تواجه اليوم هجمة شرسة جديدة من قبل قوى الظلام والإرهاب والتخلف.
 
عاشت الذكرى الستون لتأسيس إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية.
المجد والخلود لشهداء الحركة الطلابية العراقية.