المنشور

الجامعة‮.. ‬بين الانطلاق المعرفي‮ ‬والتفوق القسري

من الأبحاث الجليلة التي‮ ‬توصل إليها الباحثون تلك التي‮ ‬تشيد بقدرة الطالب على التفوق في‮ ‬الدراسة متى ما تسنت له ظروف الاختيار الطوعي‮ للمادة المدروسة،‮ ‬وقد كان التفكير السابق‮ ‬ينحصر في‮ ‬كون الأب هو الذي‮ ‬يختار المادة الجامعية لولده أو ابنته،‮ ‬ثم‮ ‬يفرضها فرضاً‮ ‬عليهم ويقوم ببذل الجهود والطاقة والمال في‮ ‬سبيل ذلك،‮ ‬وقد كان حتى وقت قريب تفرض المادة على الأبناء من قبل الآباء،‮ ‬ولكن بعد انتشار ثقافة الحرية والاختيار،‮ ‬تغير هذا المفهوم إلى مفهوم حديث‮ ‬يرقى مع العصر،‮ ‬فالطلاب الآن‮ ‬يمتحنون منذ الصغر في‮ ‬المواد التي‮ ‬يتبين إبداعاتهم،‮ ‬ثم تفرز الأسماء ويؤخذ الطلبة حسب تفوقهم إلى المادة المحددة،‮ ‬ثم‮ ‬يوجه الطالب في‮ ‬هذا المجال سواء الإلكتروني‮ ‬أو العلمي‮ ‬أو الأدبي‮ ‬لكي‮ ‬يسجل نجاحاً‮باهراً‮ ‬في‮ ‬ذلك التخصص‮. ‬منذ زمن‮ ‬غير بعيد كنا نسمع الآباء وهم‮ ‬يرددون على أبنائهم‮: ‘‬بني‮ ‬أنت ستصبح دكتوراً‮ ‬أو مهندساً‮ ‬أو محامياً‮ ‬أو قاضيا لأن عائلتنا محترمة ونحن لا نقبل إلا المهن العالية‮’. لقد تجلى بوضوح أن الطلبة المتفوقين في‮ ‬الدراسة كان بسبب انتقائهم المادة التي‮ ‬يرغبون بها ويحبونها بعشق ويغرقون فيها اشتياقاً‮ ‬وليس جبراً،‮ ‬فالطالب الذي‮ ‬نراه مبدعاً‮ ‬في‮ ‬مادته الدراسية وتحصيله العلمي‮ ‬لابد أنه اختار هذه المادة لذات المعرفة لأن بينه وبينها قرابة تلامس أحاسيسه وميوله وتتعانق مع وجدانه ومهاراته،‮ ‬وربما جيناته الوراثية،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يحدث الآن بالنسبة للطلبة الصغار في‮ ‬أكثر دول الغرب الذين‮ ‬يتمتعون بأبوين‮ ‬يعرفان التمييز مابين الفرض على الأبناء وبين إتاحة الفرصة وحرية الاختيار،‮ ‬ولهذا أثر كبير في‮ ‬فرز الموهوبين وتنمية إدراكهم منذ الصغر،‮ ‬وبالتالي‮ ‬إتاحة أكبر فرصة أمامهم أن‮ ‬يمارسوا هواياتهم في‮ ‬جميع الفنون والعلوم. الطالب الذي‮ ‬يتسنى له إبداء رأيه في‮ ‬المادة‮ ‬يبقى مدفوعاً‮ ‬للمعرفة برغبة ذاتية عارمة،‮ ‬ولا‮ ‬يشغله عن هذه الرغبة أي‮ ‬شاغل ولا‮ ‬يصرفه عنها أي‮ ‬اهتمام،‮ ‬نراه منكباً‮ ‬ليلاً‮ ‬نهاراً‮ ‬دون أي‮ ‬حاجة للزجر أو للإلحاح من الوالدين،‮ ‬كما أنه لا‮ ‬يحتاج إلى جوائز وهدايا كثيرة وإغراءات حتى‮يؤدي‮ ‬واجباته المدرسية،‮ ‬وكأنه‮ ‬يقول لوالديه‮: ‬يكفي‮ ‬أنكما تركتما لي‮ ‬الحرية في‮ ‬اختيار ما أريد،‮ ‬أنا الآن المدان لكما ولتفهمكما لي‮. ‬أما الجانب الآخر من البحوث فهي‮ ‬تقول إن الطالب الذي‮ ‬يجبر على مادة ما ثم تكون نهايته الفشل الذريع،‮ ‬أو أنه‮ ‬يتمرد في‮  ‬البحث عن المادة التي‮ ‬تستغرق اهتمامه وهواه فنراه‮ ‬ينصرف انصرافاً‮ ‬كلياً‮ ‬ويبذل الغالي‮ ‬والرخيص لتكوين ذاته في‮ ‬التوجه الذي‮ ‬اختاره لنفسه،‮ ‬إن لذة المعرفة ذاتها هي‮ ‬التي ‬تستحوذ على كل كيانه وتمنحه أقصى درجات الغبطة والشعور بأهميتها وتدفع به إلى الجانب الآخر من الشط ولا‮ ‬غرابة في‮ ‬ذلك لأن هناك فارقاً‮ ‬شاسعاً‮ ‬بين القراءة والاطلاع من أجل الاكتشاف والمعرفة وبين القراءة فقط للامتحان وتحصيل الشهادة واللقب والمركز والمكسب المادي‮. ‬في ‬الحالة الأولى‮ ‬يحس الطالب بنبضات تجاهها ونشوة تأخذ عقله وتحرك تفكيره،‮ ‬وفي‮ ‬الثانية‮ ‬يحس بالعبودية وأنه مجبر على الحفظ عن ظهر قلب، ‬وفي‮ ‬أفضل الحالات لا‮ ‬يستمر الحفظ إلا فترة قليلة في‮ ‬الذاكرة ثم تنتهي‮ ‬المعلومة ريثما‮ ‬يغادر الامتحان،‮ ‬يشعر وكأنه بطارية سيارة تأخذ شحنة وبعد قليل تفقد تلك الشحنة ويخرج من السنة الدراسية فاضي‮ ‬اليدين وهو‮ ‬يقول‮: ‬دخلتك وأنا جوعان وخرجت منك وأنا جوعان،‮ ‬يشعر أن المواد التي‮ ‬حفظها وكأنها مواد عسرة الهضم لاتذوب في‮ ‬كيانه أو ذهنه،‮ ‬ولا تمتزج بروحه ومزاجه ولا تخدم الأهداف التي‮ ‬نذر نفسه لها‮.  ‬نأخذ مثالاً ‬على ذلك‮.. ‬توفيق الحكيم كان من الطلبة الذين‮ ‬يجبرون على المادة التي‮ ‬يرغب بها والداه،‮ ‬فقد أراده أبوه قاضياً‮ ‬لكي‮ ‬يرفع رأس عائلته،‮ ‬لكن هذا الرجل العظيم،‮ ‬ومن‮ ‬يقرأ عن تاريخ حياته‮ ‬يعرف بأنه كان‮ ‬يدرس المواد التي‮ ‬يحبها من وراء ظهر والده،‮ ‬وفي‮ ‬النهاية أصبح هذا الرجل عبقرياً ‬ومن أبرز المفكرين العرب في‮ ‬العصر الحديث في‮ ‬المجالات الأدبية والعلمية والفنية وباحثاً‮ ‬ومسرحياً‮ ‬وقاصاً،‮ ‬فضمن لنفسه دوام الذكر والخلود والمكانة الرفيعة‮.‬ وهناك أمثلة كثيرة‮ ‬يذكرنا التاريخ بها بين الحين والآخر مثل آنشتاين وداروين وإسحاق نيوتن وغيرهم‮.‬

صحيفة الوطن
12 ابريل 2008