المنشور

جرعة زائدة من الفضول

كل الناس في‮ ‬الحياة مراقبون،‮ ‬صحيح أن الأمر‮ ‬يتفاوت،‮ ‬نسبةً‮ ‬وعمقا،‮ ‬من شخصٍ‮ ‬إلى آخر،‮ ‬لكن ما من امرئ إلا وهو معني‮ ‬بمراقبة محيطٍ‮ ‬يضيق أو‮ ‬يتسع من الأشياء وكذلك من الناس الذين‮ ‬يهمه أمرهم،‮ ‬وفي‮ ‬بعض الأحوال حتى أولئك الذين لا‮ ‬يهمه أمرهم في‮ ‬جرعةٍ‮ ‬زائدةٍ‮ ‬من الفضول‮.‬ حتى ‬تقييماتنا وملاحظاتنا عن الناس وعن الأشياء إنما هي،‮ ‬في‮ ‬مقدارٍ‮ ‬معين،‮ ‬حصيلة هذا النوع من المراقبة،‮ ‬التي‮ ‬تصل في‮ ‬بعض الحالات إلى درجةٍ ‬من التركيز‮ ‬يضاهي‮ ‬الفراسة في‮ ‬دقة الحكم على الأمور وعلى طبائع وميول الأشخاص‮.‬ ثمة بشر‮ ‬يمتلكون هذه الحاسة النافذة في‮ ‬التقدير مُعتمدين على سرعة البديهة ودقة الملاحظة،‮ ‬وبالتأكيد على الخبرة المتراكمة المكتسبة في‮ ‬الحياة‮.‬ ويبدو أن المادة الخام للإبداع على أنواعه،‮ ‬خاصة الكتابة،‮ ‬هي‮ ‬تلك المستقاة من المراقبة‮.‬ أول ما‮ ‬يفعله المبدع هو،‮ ‬على الأرجح،‮ ‬تسجيل مشاهداته وإعادة تركيبها فيما بعد متوسلاً‮ ‬في‮ ‬ذلك مخيلته وأدواته الفنية المكتسبة‮. ‬إن الراوي‮ ‬في‮ ‬القصة أو الرواية إنما‮ ‬يسرد حصيلة مراقباته التي‮ ‬تبدو في‮ ‬بعض مظاهرها أشبه بالتلصص على عوالم الشخوص والنفاذ إلى دواخلهم‮.‬ لأنطون تشيخوف‮  ‬قصة عنوانها‮ “‬حكاية رجل مجهول‮”‬،‮ ‬عن خادمٍ‮ ‬يراقب تصرفات سيده،‮ ‬ويرويها مُركزاً‮ ‬على الجوانب الأكثر إثارة للغرابة والدهشة‮. ‬إن الراوي‮ ‬هنا‮ ‬يتلبس شخص الخادم لأن ذلك‮ ‬يمنحه فرصة الاقتراب الشديد من الشخص موضوع الحديث في‮ ‬أكثر الأماكن والأشياء خصوصية وتفصيلية،‮ ‬بدءا من طريقة وموعد نومه وساعة صحوه وطقوس ما بعد الصحو،‮ ‬ودخوله الحمام وارتدائه لملابسه وخروجه من البيت‮.‬ على أن في‮ ‬المراقبة أمر آخر جدير بالملاحظة هو ذاك الذي‮ ‬ألمح إليه ميلان كونديرا في‮ “‬فالس الوداع‮” ‬عن صنفٍ‮ ‬من الناس‮ ‬يشطرون أنفسهم إلى نصفين‮: ‬كائن مجرب وكائن مراقب‮.‬ ان الحديث‮ ‬يدور هنا عن شخصٍ‮ ‬واحد‮ ‬يتنقل بين منطقتين،‮ ‬في‮الأولى‮ ‬يكون هو صانع للحدث،‮ ‬وفي‮ ‬الثانية‮ ‬يصبح مراقباً‮ ‬لسلوكه،‮ ‬وفي‮ ‬الغالب فان الإنسان لا‮ ‬يجد المتسع من الوقت،‮ ‬وأحيناً‮ ‬لا‮ ‬يملك الوعي الكافي،‮ ‬لمراقبة تصرفاته،‮ ‬فلا‮ ‬ينتبه إلى البواعث الحقيقية لما‮ ‬يأتي‮ ‬به من سلوك‮.‬ إن مراقبة الذات تأتي‮ ‬في‮ ‬الغالب بعد أن‮ ‬ينجز الفعل ويهدأ الانفعال،‮ ‬وهذا‮ ‬يذكرنا بسؤال أثاره أحد الكتاب ذات مرة عما إذا كان بوسع الناس أن تخرج من ذواتها كما تخرج من البيت إلى الشارع‮.‬ يبدو أن الذات هي‮ ‬حصيلة مُركب من الأمرين‮: ‬التجربة والمراقبة‮. ‬إن الإنسان مجرب ومراقب لذاته في‮ ‬آن‮.‬ الفعل أو رد الفعل الآني‮ ‬والمنفعل نتاج منطقةٍ‮ ‬في‮ ‬هذه الذات،‮ ‬أما المراقبة فهي‮ ‬عمل ذهني‮ ‬بامتياز هدفه ترشيد الانفعالات وضبطها‮.‬ والمراقبة بهذا المعنى قد تكون خلاقة‮.. ‬ولكنها قد تكون قامعة أيضاً‮.‬

صحيفة الايام
12 ابريل 2008