المنشور

ضرورة الحوار الوطني من خلال مشهد مؤتمره الثاني


بدا الحوار الجدّيّ واهناً، ناهيك عن ‘الحوار الوطني’، في مؤتمره الثاني الذي جرى لاهثاً، مسرعاً ومختزلاً في يوم السبت 29 مارس/ آذار الماضي، متخذاً من شعاره (الملتبس) ‘الثوابت الوطنية فوق الانتماءات الطائفية’ ركيزته الأساس.

ولنا أن نتساءل.. ما هي ‘الثوابت الوطنية’ هذه التي يجب أن تكون فوق ‘الانتماءات الطائفية’، وكأن الانتماء في حد ذاته شائبة ونقيصة؟ في اعتقادي المتواضع ما لم تحدد هذه الثوابت الوطنية سيتحول الشعار نفسه إلى حمّالة أوجه، كل يغني على ليلاه من خلال ثوابته انطلاقاً من رؤيته وفهمه لواقع مجتمعه والوجود الإنساني ككل. بمعنى أن الإشكال لا يأتي من الانتماء مهما كان صغيراً أو فرعياً – حتى الأسريّ منه – بل العلة موجودة في المعلول، أي في من يجني ثمار الاستخدام السلبيّ/ المصلحيّ لأي انتماء، حتى ‘الوطنية’ منها؟

 طغت مسألة ‘الطاعون الطائفي’، بمعنى الاستخدام السياسيّ/ المصلحيّ، على جُلّ موضوعات المحاور/ المحاضرات الأربع (المكتوبة سلفا) التي ألقيت بالتفاصيل على المتلقين (المشاركين) ولذلك لم يسعف المستمعين الوقت الكافي للإسهام في ذلك ‘الحوار’ المرجو. كان المشهد أشبه بقاعة في إحدى الجامعات – محاضر ومتلقي- بدل أن تكون ورشة عمل حقيقية، يتسنى للحضور- يومئذ – المشاركة الفعالة وأن يستفيد المؤتمرون من الجهد المبذول الذي يجب – على أية حال- أن يشكر ويقدر عليه أصحابه.

 وقد تهيأ للبعض – بسذاجة معهودة – إن ما يسمى بـ ‘التمييز الوظيفي’ هو لُبّ المشكلة الطائفية، وأن ‘الحكم’ – لوحده – مسؤول عن هذا الإشكال المستعصي. وما على ‘الدولة’ إلا أن تشغل هؤلاء (مدعي الإقصاء الوظيفي) في الجيش، الدفاع، الداخلية والأماكن الحساسة وأن يتقدم ‘الوجهاء والأعيان’ لتسلّم المناصب الوزارية السيادية وبعد ذلك ستتبخر الطائفية من أرض البحرين! ناسين هؤلاء السادة ومريديهم البسطاء من القوم، الذين يحملون هذا الرأي العام السائد – للأسف – أن تركيبة البحرين الديمغرافية والنزاعات التاريخية التي أدت إلى عدم الثقة والتوجس بين قطبيّ الرحى (الغالبية الشيعية والأسرة والحكم) لا تسمح بتطبيق المُرتجى من التوقعات! بجانب أن الوزارات السيادية كانت وستظل في الأفق المنظور من نصيب أفراد العائلة الحاكمة والمقربين منها. وأن التمييز، في شتى المجالات، سلاح بيد الأقوياء والشركاء من الطرفين وسيف مسلط على رقاب غالبية المواطنين في البحرين من دون استثناء، يستشري خصوصاً بين فقراء الطائفتين الكريمتين شيعة وسنة، أعاجم وعُرب! وجوهر التمييز هو طبقي بامتياز بعيداً عن الظاهر (أو المتظاهَر) على السطح، الأمر الذي يجري النفخ فيه والزعيق حوله وكأن الجزء الآخر من الناس يعيش في العسل! ولأن الجميع مشغولون أو منشغلون بهذا الهاجس أو الوحش الخرافي المسمى ‘الطائفية’، الأشبه بأسلحة الدمار الشامل المنخرة للنسيج الاجتماعي لمجتمعنا البحريني المعاصر. بودي أن أبين وجهة نظري من خلال بديهيات أولية عدة، من الممكن أن تتلخص في النقاط الآتية:


(أولاً): للطائفية جذور من الموروث التاريخي التقليدي، أي أنها ظاهرة موضوعية لا يمكن القفز عليها برغبات ‘إرادوية’ وإن كان لابد من تقليل آثارها المدمرة وذلك بالعمل الجدّي الجامع بصبر وأناة ونفس طويل الأمد ونضال شاق ودؤوب متعدد الجوانب من أجل إحلال وعي وطني عقلاني تنويري عصري جامع محل الوعي الاجتماعي والثقافي التقليدي السائد الآن.


(ثانياً): رغم أن الطائفية بالنسبة لنا كانت ومازالت صناعة محلية بامتياز إلا أنها ظاهرة منتشرة في أغلب المجتمعات البشرية الأخرى لكن للطائفية هنا سند خارجي وامتداد إقليمي مقبل – خصوصاً – من الضفتين.


(ثالثاً): الجميع ينعت الطائفية بأسوأ الصفات ويتبرأ منها ولكن الكثرة الغالبة تمارسها عملياً على أرض الواقع، كونها أسيرة الفكر الطائفي، بوعي أو من دونه. فالممارسة الطائفية لا تتجسد في المستوى الرسمي فحسب بل هي منتشرة في أذهان ووجدان الناس، وكل قوم (طائفة) يستأسد في عرينه ضد الآخر!


(رابعاً): صحيح أن المسؤول الأساس عن انتشار’الطائفية/ المذهبية’، هو نهج الاستمرارية في تطبيق سياسة ‘فرق تسد’ المنبثقة من التركة الاستعمارية، المستخدَم بواسطة الأجنحة المحافظة انطلاقاً من مصالحها (شكل من أشكال إعاقة تفعيل مشروع الإصلاح) ولكن هذه المصلحة الطبقية المحافِظة للامتيازات تعود بالنفع المادي والمعنوي لجهات عدة في النظام وخارجه من الصفوة المتميزة والنُّخب الفاعلة، ذي المنحى الطفيليّ.


(خامساً): تركيبة الجمعيات السياسية الدينية – الطائفية والمذهبية – الفاعلة مسؤولة عن تفشيها، كون ‘الطائفية/ المذهبية’ زادها التسويقي الأهم بُغية الاحتفاظ بجماهيرها الدّهماء المستجيبة للشحن العاطفي المبني على الطائفة الواحدة العائدة لهذه الجمعية أو تلك.


(سادساً): ما يزيد الطين بلة ليس ضعف القوى التنويرية الحديثة بتلاوينها ومشاربها فحسب بل إن الجمعيات السياسية تلك، على تناثرها ووهنها، مخترقة – في الواقع – بعناصر مشحونة بالحس والفكر الطائفيين وان كان أصحابها يتشدقون بالفكر العروبي أو الأممي وذلك راجع أساساً للضعف الفكري والنظري في تلك الجمعيات النخبوية التي تعاني من الأمرّين، فقر الكم والكيف. قلة عدد الأعضاء والقاعدة الهشة، المتجسدة في شُح الكوادر العمالية الكادحة والمثقفة ذوي المصلحة الأولية لسيادة الوعي الوطني الحق.


(سابعاً): عدم وجود تشريعات واضحة ملزمة تحد من الطائفية في شتى المجالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الحقوقية، الثقافية وغيرها.. من هنا كم هو مهم أن يبادر أصحاب القرار بسن تشريعات وقوانين عصرية جسورة في شتى الميادين، تُفعّل وتطال، قضايا وحقوق المرأة والأسرة، الحريات العامة، الجمعيات الخيرية، الضمانات الوظيفية، الاجتماعية، الصحية، الإسكانية، والبيئية، الجمعيات/ الأحزاب السياسية، النقابات العمالية والجمعيات النسائية.


(ثامناً): أخيرا لابد من أن تعمل جميع قنوات المجتمع المدني، بآلية ‘منسجمة’ لدحر الطائفية.. على أن أقوى علاج ناجع لهذا الداء النهّاش، بجانب مختلف قوى الضغط المجتمعي، يأتي من حركتين عارمتين في مجتمعنا وهما الحركة العمالية والحركة النسائية كونهما منظمتان جماهيريتان عابرتان للطوائف والتخلف في آن واحد.. ولذلك كلما استقوى عود هاتين القوتين الجبارتين واتحدت فصائل كل منهما فإن أفول الطائفية لقريبُ.

صحيفة الوقت
6 ابريل 2008